ثم ذكر حجتين عقليتين على مباينته فقال: "ويقال للجهمي: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه. فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينكم وبين خلقه؟ فإن قال: نعم. فقد زعم أن الله بائن من خلقه، وأن خلقه دونه، وإن قال: لا. كفر".
وذلك أن من أثبت أن شيئا بين الله وبين خلقه فقد جعله مباينا، فإن المباينة والبين من اشتقاق واحد، وإذا كان شيء بين شيئين، فالثلاثة مباينة بعضها عن بعض، وهذا الوسط من هذا، وهو ما بينه وبين هذا، وهو مباينه، ومباين المباينين أولى أن يكون مباينا.
وقد ذكر في كتابه أنه يحجب بعض خلقه عنه، فقال تعالى: [ ص: 113 ] وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب [الشورى: 51] وقال: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [المطففين: 15] واختصاص بعض خلقه بالحجاب يمنع أن يكون الجميع محجوبين، وإذا كان البعض محجوبا، والبعض ليس محجوبا امتنع أن يكون فيهم كلهم؛ لأن نسبتهم إليه حينئذ تكون نسبة واحدة، ووجب أن يكون بينه وبين بعضهم حجابا، وذلك يقتضي المباينة كما تقدم.
ومثل هذا قوله: ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق [الأنعام: 62] وقوله: ولو ترى إذ وقفوا على ربهم [الأنعام: 30] وقوله: وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [الكهف: 48] ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم [السجدة: 12] فلفظ "إليه" و"عنده" و"عليه"، بحيث يكون بعض الخلق مردودا إليه، وبعضهم موقوفا عليه ومعروضا عليه وبعضهم ناكسو رؤوسهم عنده، يقتضي أن الخلق ليسوا كلهم كذلك، وأنهم قبل ذلك لم يكونوا كذلك، وأنهم مباينون له منفصلون عنه، وأنه بحيث يكون شيء عنده ويرد شيء إليه ويعرض. ولو كانت ذاته مختلطة بذواتهم لامتنع ذلك، وهذا يقتضي مباينته وامتيازه واختصاصه بجهة وحد، وبطلان قول من يقول: إن ذاته مختلطة بذواتهم، أو يجعل الموجودات [ ص: 114 ] لا تختلف نسبتها إليه، بل ما فوق السماء كما تحتها، وعلى قول هذا يمتنع لقاؤه والعروج إليه، والرد إليه والوقوف عليه، والعرض عليه، وأمثال ذلك مما دل عليه القرآن، وعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ ولهذا يجعلون ما جعل له في هذه الآيات إنما هو لبعض المخلوقات، إما ثوابه، وإما عقابه، وإما غير ذلك، أو يجعلون ذلك عبارة عن حصول العلم به، وأمثال ذلك من التأويلات التي هي من جنس تأويل القرامطة.