قلت: قول القائل: ما لا سبيل لنا إلى العلم به كلام مجمل، قد يراد به ما لا سبيل لبعض الناس إلى معرفته، أو يراد به ما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، ثم قد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى فهم معناه ومعرفة شيء من المراد به، بل قد يكون مثل الأعجمي الذي حفظ حروف القرآن ولا يدري [ ص: 216 ] ما هو، وإذا خاطبته بعربية القرآن لم يفهم عنك ولم يخاطبك إلا بلسانه.
وقد يراد به أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة الخبر الواقع في الخارج كيف هو، ومتى يقع، أو كم مقداره، فإن لفظ التأويل له عدة معان كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
والذين جوزوا ذلك عمدتهم قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. وسنبين أنه ليس المراد بهذا أنه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله، بل هذا القول خطأ، وما ذكره من حجج المتكلمين يبطل هذا القول، لكن لا يدل على أن التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، والتأويلات التي لا يعلم بها مراد المتكلم هو التأويل المذكور في قوله تعالى: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم [آل عمران: 7]. على القراءة الأخرى.
بل إن هؤلاء المتكلمين لا يعلمون تأويله الذي هو تفسيره ومعرفة المراد به، فإن الراسخين في العلم الذين [ ص: 217 ] يعلمون هذا التأويل قد عرفوه بعينه، لم يترددوا ويقولوا: يجوز كذا ويجوز كذا، فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيرا من العلوم، كالطب والنجوم والتفسير والحديث، وإن كان غيره يعلم ذلك. فمن قال: إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب، وذلك لعجزه، لا عن نقص في دلالة القرآن،
وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقد غلط.
وإن قال: لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب.
وما ذكره من حجج المتكلمين يدل على أنه ليس فيه ما يمتنع معرفة تفسيره ومعناه والمراد به الذي هو الصواب، وعلى هذا عامة السلف، فإنهم لا يقولون: إن في القرآن ما لا يعلم الرسول معناه وتفسيره، وما عنى الله تعالى به، ولا جبريل الذي جاء به، ولا أحد من المؤمنين، بل فيه ما لا يعلم عاقبته وما يؤول إليه إلا الله تعالى، وبسط هذا له موضع [ ص: 218 ] آخر.