قلت: وسبب هذه الحيرة والتوقف، أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والذي حكاه عن السلف
[ ص: 261 ] قول باطل، والقول الذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين، كما سيأتي الكلام عليه.
وأما هنا فإنما ذكر النزاع في جواز
nindex.php?page=treesubj&link=28911_26460اشتمال القرآن على ما لا يمكن علمه، وقد بينا أن هذا يراد به اشتماله على لفظ لا يمكن أحدا معرفة معناه، بل يكون كاللفظ العجمي عند العرب، والصواب أن هذا لا يجوز، ولا يعرف عن أحد من السلف تجويز هذا، وإنما قال كثير منهم: إن الوقف على
nindex.php?page=treesubj&link=28911_26460قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. ولكن لم يريدوا هذا المعنى كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويراد به أنه لا يمكن بعض الناس فهمه، وهذا موجود، فما كل أحد يمكنه العلم بكل ما يمكن غيره العلم به، لا من معاني القرآن، ولا من الحديث، ولا من الفقه، ولا من العربية، ولا الطب، ولا الحساب، ولا سائر علوم بني آدم.
ويراد به: أن لبعضه تأويلا يؤول إليه، لا يعرف حقيقة ذلك التأويل إلا الله عز وجل، والصواب أنه كذلك، ولم ينازع أحد من السلف في مثل ذلك أيضا، كما سنبينه في لفظ التأويل،
[ ص: 262 ] وإذا كان كذلك، فما ذكره من الوجوه تدل على المعنى الأول، وأنه لا بد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه، ولكن أصحاب التأويلات الفاسدة والتفسيرات المحرفة، يدعون أن ذلك المعنى هو معنى الآية، وهم في ذلك مخطئون، وإذا كان كذلك، فالجواب عما ذكره من حجتين من حجج من جوز ذلك أن يقال: أما قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. فهذه الآية فيها قراءتان وقولان مشهوران، ونحن نسلم قراءة من قرأ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عنى به المتكلم؟ وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه، وهو -سبحانه وتعالى- لم يقل: وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال: وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال: وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله، بل قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وما يعلم تأويله إلا الله [آل عمران: 7]. ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل
[ ص: 262 ] التفسير معنى، وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الاصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره، وهذه المعاني الثلاثة موجودة في كلام الناس، وقد يذكر بعضهم فيها معنيين، ومنهم من يذكر الثلاثة مفرقة، بل كثير من أهل التفسير يذكرون في أول تفسيرهم المعنيين، ثم يذكرون المعنى الثالث في موضع آخر، كما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره
[ ص: 264 ] فقال:
قُلْتُ: وَسَبَبُ هَذِهِ الْحَيْرَةِ وَالتَّوَقُّفِ، أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا عَنِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالَّذِي حَكَاهُ عَنِ السَّلَفِ
[ ص: 261 ] قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَالْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ عَنِ السَّلَفِ لَيْسَ قَوْلَهُمْ وَلَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّمَا ذَكَرَ النِّزَاعَ فِي جَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=28911_26460اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ اشْتِمَالُهُ عَلَى لَفْظٍ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا مَعْرِفَةُ مَعْنَاهُ، بَلْ يَكُونُ كَاللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ تَجْوِيزُ هَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28911_26460قَوْلِهِ تَعَالَى: nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آلُ عِمْرَانَ: 7]. وَلَكِنْ لَمْ يُرِيدُوا هَذَا الْمَعْنَى كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْضَ النَّاسِ فَهْمُهُ، وَهَذَا مَوْجُودٌ، فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ الْعِلْمُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ غَيْرَهُ الْعِلْمُ بِهِ، لَا مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَلَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَلَا مِنَ الْفِقْهِ، وَلَا مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا الطِّبِّ، وَلَا الْحِسَابِ، وَلَا سَائِرِ عُلُومِ بَنِي آدَمَ.
وَيُرَادُ بِهِ: أَنَّ لِبَعْضِهِ تَأْوِيلًا يَؤُولُ إِلَيْهِ، لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي لَفْظِ التَّأْوِيلِ،
[ ص: 262 ] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْوُجُوهِ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَعْنًى يُمْكِنُ فَهْمُهُ، وَلَكِنَّ أَصْحَابَ التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْمُحَرَّفَةِ، يَدَّعُونَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُخْطِئُونَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ حُجَّتَيْنِ مِنْ حُجَجِ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آلُ عِمْرَانَ: 7]. فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قِرَاءَتَانِ وَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آلُ عِمْرَانَ: 7]. لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَى بِهِ الْمُتَكَلِّمُ؟ وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الَّذِي قَصَدَ الْمُخَاطِبُ إِفْهَامَ الْمُخَاطَبِ إِيَّاهُ، وَهُوَ -سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى- لَمْ يَقُلْ: وَمَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا قَالَ: وَمَا يَعْلَمُ تَفْسِيرَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا قَالَ: وَمَا يَعْلَمُ مَدْلُولَهُ وَمَفْهُومَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، بَلْ قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=7وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ [آلُ عِمْرَانَ: 7]. وَلَفْظُ التَّأْوِيلِ لَهُ فِي الْقُرْآنِ مَعْنًى، وَفِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَهْلِ
[ ص: 262 ] التَّفْسِيرِ مَعْنًى، وَفِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهُ مَعْنًى، وَبِسَبَبِ تَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْأَوْضَاعِ فِيهِ حَصَلَ اشْتِرَاكٌ غَلِطَ بِسَبَبِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ، وَقَدْ يَذْكُرُ بَعْضُهُمْ فِيهَا مَعْنَيَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ الثَّلَاثَةَ مُفَرَّقَةً، بَلْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ يَذْكُرُونَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِمُ الْمَعْنَيَيْنِ، ثُمَّ يَذْكُرُونَ الْمَعْنَى الثَّالِثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، كَمَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11890أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ
[ ص: 264 ] فَقَالَ: