الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الخامس عشر: قوله: إن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية. قد أبطلناه في مواضع، ونحن ننبه هنا على بطلانه فنقول: هذا القول من أعظم السفسطة، وهو من أعظم أنواع السفسطة التي في الوجود، ولهذا لم يعرف هذا القول عن طائفة معروفة من طوائف بني آدم لا المسلمين ولا غيرهم؛ لظهور فساده، فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق، وأن بني آدم يتخاطبون ويكلم بعضهم بعضا، ويفهم بعضهم مراد بعض علما ضروريا أعظم من علمهم بالعلوم النظرية.

والنطق للإنسان أظهر صفات الإنسان التي تميز بينه وبين البهائم، ولظهور ذلك قال تعالى: فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [الذاريات: 23]. ولهذا يقول من يقول في الإنسان: إنه الحيوان الناطق، ثم البهائم يفهم بعضها [ ص: 459 ] مراد بعض بأصوات تصوتها، وقد تسمى منطقا لها كما قال سليمان عليه السلام: يا أيها الناس علمنا منطق الطير [النمل: 16]. وقد ذكر سبحانه وتعالى قول النملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [النمل: 18]. فالنملة قالت للنمل قولا يتضمن أمرا وتحذيرا، وسليمان عليه السلام فهم ما قالته، فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [النمل: 19]. وهو أيضا خاطب الهدهد وخاطبه بما حكاه الله، حيث قال الهدهد له: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت .من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون [النمل: 22-28]. بل هو سبحانه وتعالى ينطق الجماد بأصوات يفهمها من يفهمها من الآدميين كما قال تعالى عن داود عليه السلام: يا جبال أوبي معه والطير [سبأ: 10]. وقال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق [ص: 18]. [ ص: 460 ]

والحصى قد سبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن مسعود: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل". وكان [ ص: 461 ] أبو الدرداء وسلمان الفارسي يسمعان تسبيح القدر، وقال [ ص: 462 ] النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن».

وهذا باب واسع، فهو سبحانه لعموم هدايته هدى مخلوقاته، وجعل بعضها يفهم عن بعض مراده بما ألهمه الله من نطق أو غيره، وهذا لبسطه موضع آخر، ولكن المقصود هنا أن دلالة الأدلة القطعية القولية على مراد المتكلم ومعرفة المستمع بمراده وفهمه لكلامه هو ما يعرفه جميع بني آدم علما ضروريا قبل علمهم بالأدلة العقلية المجردة. فالطفل إذا صار فيه تمييز [ ص: 463 ] علم مراد أبيه وأمه بما يخاطبانه به، وفهمه لمراد الأم أسبق إليه من العلم بالأدلة العقلية النظرية، فإن هذا مما يعلم به مراد المتكلم اضطرارا، ولا يتوقف فهم الصغير لكلام مربيه أبيه وأمه وغيرهما، لا على نقل اللغة والنحو والتصريف، ولا على نفي المجاز والإضمار والتخصيص والاشتراك والنقل والمعارض العقلي والسمعي، بل يعلم مرادهم بكلامهم اضطرارا لا يشك فيه.

ثم سائر بني آدم يخاطب بعضهم بعضا ويفهم مرادهم من غير احتياج إلى شيء من تلك المقدمات، ويكتبون الكتب إلى الغائب الذي لا يراهم ولا يرى حركاتهم، فيعلمون مراد الكاتب اضطرارا في أكثر ما يكتبه، وإن كان بعض ذلك قد يظن أو لا يفهم، لكن الأغلب أنهم يعلمون مراده اضطرارا، وهذا موجود [ ص: 464 ] في مكاتبة العامة والخاصة ومن يخاطبهم، فإذا كان الخط الدال على اللفظ يعلم به المراد اضطرارا في أكثر ما يكتب، فاللفظ الذي هو أقرب إلى المعنى المراد أولى أن يعلم به المراد اضطرارا.

ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجودا في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم، فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم وأن يفهم مرادهم من خطابهم، وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء، فالأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم، وبأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم.

ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بيانا، وقد قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [إبراهيم: 4]. فهو إنما أرسل الرسل بلسان قومهم الذين خاطبوهم أولا ليبين الرسول ما أراده وما أوحاه الله إليه من الرسالة، فكيف يجوز أن يقال إنهم لم يبينوا المراد؟ وأن أقوالهم لم تدل على مرادهم، فلم يبينوا ما أوحي إليهم بيانا قاطعا، لأنهم بينوه بلفظهم، وهذا يقول: إن شيئا من الأدلة [ ص: 465 ] اللفظية لا يمكن أن يكون قطعيا، مع أن هذا القول -كما تقدم- لا يعرف عن طائفة من طوائف بني آدم، لا من المسلمين ولا من غيرهم، ولا عن عالم معروف؛ إذ كان هذا القول في غاية السفسطة وجحد الحقائق، وإنما الذي يقوله بعض الناس هو: القدح في بعض الأدلة اللفظية والسمعية، كما قد يقدحون في بعض الأدلة العقلية.

أما القدح في الجنس فهذا لا يعرف في جنس المتكلمين عن طائفة من الآدميين.

التالي السابق


الخدمات العلمية