ثم فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء: أنه ليس في السماء رب، ولا في الروضة رسول، ولا في الأرض كتاب، كما سمعت قالوا: ليس ذات الرسول بحجة، وقالوا: ما هو بعد ما مات بمبلغ فلا تلزم به الحجة -رحمه الله- يحكم به عليهم، وإن كانوا موهوها، ووروا عنها، أو [ ص: 205 ] استوحشوا من التصريح بها، فإن حقائقها لازمة لهم. وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين، وأوجبوا النظر في الكلام، واضطروا إليه الدين بزعمهم، فكفروا السلف، وسموا الإثبات تشبيها، فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى فيهم رجلا ورعا، ولا للشريعة معظما، ولا للقرآن محترما، ولا للحديث موقرا، سلبوا التقوى، ورقة القلب، وبركة التعبد، ووقار الخشوع، واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره، ولا متتبع أخباره، ولا متأصل عن سنته، ولا هو راغب في أسوته. يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثا واحدا، تراه يهزأ بالدين، ويضرب له الأمثال، ويتلعب بأهل السنة، ويخرجهم أصلا من العلم، لا تنفذ لهم عن بطانة إلا خانتك، ولا عن عقيدة إلا رابتك، ألبسوا ظلمة [ ص: 206 ] الهوى، وسلبوا هيبة الهدى، فتنبو عنهم الأعين، وتشمئز منهم القلوب ). يحيى بن عمار
وقد ذكر قبل ذلك: (باب تعظيم [إثم ] من سن سنة سيئة أو دعا إليها ) وذكر الأحاديث في هذا الباب، ثم ذكر حديثا رواه من حديث حدثنا عثمان بن سعيد يحيى بن الحماني، حدثنا عن ابن المبارك، حيوة بن شريح، حدثني أبو صخر [ ص: 207 ] حميد بن زياد أن نافعا أخبره عن قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول ] ابن عمر، "سيكون في أمتي مسخ، وذلك في قدرية [ ص: 208 ] وزندقية".
[ ص: 209 ] قال: (فلم يكن بد أن يكون ما قال هو كائن كائنا، فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل -رضي الله عنه- ظلما، وهي إحدى فتنتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتهما فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في الحديث عثمان بن عفان فلما قتل "أنه من نجا من ثلاث [فقد نجا ] موتي، وقتل خليفة مضطهد بغير حق، والدجال" ذو [ ص: 210 ] النورين -رضي الله عنه- بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام، وفي حرم الرسول -عليه الصلاة والسلام- بأعين المسلمين، وانشقت العصا، وتفرقت الجماعة: تشامست الأعين، وتجادلت الأنفس، واختلفت الآراء، وتباعدت القلوب وساءت الظنون، واشتعلت الريب، واستقوت التهم، وجدت كل فتنة فرصتها فلفظت غصتها، واشتغل الرعاء وأسلم [ ص: 211 ] النشأ وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا، فأخذت الغواة أزمة الضلالة، فتهوست لها قلوب أهل الغفلة فمما ظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفا، وهي الزندقة الأولى: وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على أثر بعض: الأولى منها القول بالقدر، وهي فتنة البصرة. ثم قصب السلف وهي فتنة الكوفة. ثم إنكار الكلام لله، وهي فتنة المشرق.
فأما فأول من تكلم بها "فتنة القدر" معبد الجهني رجل [ ص: 212 ] من البصرة كان عنده سوء حظ من العلم، يقال له: ويقال: معبد بن خالد، معبد بن عبد الله بن عويمر، مات بعد الهزيمة، وكان يومئذ مع ابن الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر، وهو الذي تبرأ منه فتكلم [ ص: 213 ] عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب، عمرو بن عبيد، وجادل به غيلان، وغيلان هو ابن [ ص: 214 ] أبي غيلان أبو مروان من موالي وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عثمان بن عفان، واستتابه عبد الملك بن مروان ثم ظهر منه تكذيب التوبة فصلب على باب عمر بن عبد العزيز، الشام بأخزى حالة لقيها [ ص: 215 ] بشر، قصته قد تقصيتها في "كتاب تكفير الجهمية ".
وأما عمرو بن عبيد، وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن باب مولى بني تميم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة في طريق مكة، فإنه أول من بسط أساسه فأصبح رأسه، ونظم له كلاما، ونصبه إماما، ودعا إليه، ودل عليه، فصار مذهبا يسلك، وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأولى، ورأس المعتزلة ، سموا بها لاعتزاله حلقة وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر الحسن [ ص: 216 ] البصري؛ وإمام أهل الرأي مالك بن أنس الأصبحي، النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة، وحذر منه إمام أهل المشرق وقد قدمنا أسانيد تلك الأقاويل. فسلط الله عليه [ ص: 217 ] وعلى من استتبع واخترع سيفا من سيوف الإسلام وهو عبد الله بن المبارك الحنظلي. واسم أبيه أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره، وأظهر عواره، ووسمه باللعنة وألحق به بلاء تلك الفتنة، وهو الذي يقول إذا رأيت الرجل من أهل قتيبة بن سعيد: البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق، وقال رجل [رحمه الله ]: من السني؟ قال: من أين أنت؟ قال: من أهل لأحمد بن حنبل البصرة قال: أتحب قال: نعم؟ قال: فأنت سني: هذه قصة أهل [ ص: 218 ] أيوب السختياني؟ البصرة.
وأما "قصة غيلان " فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور بن يزيد، ومكحول الفقيه، وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية، فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة من أهل الشام أبا عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي، فلحظهم [ ص: 219 ] بالصغار، ووضعهم في المقدار، وبسط عليهم لسانا أعطي بيانا، وضن عليهم ببشاشة الوجه، وطلاقة اللقاء، حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة، وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه.