فلما كانت
nindex.php?page=treesubj&link=29639مسألة العلو هي في نفسها أعظم وأدلتها أقوى وأكثر والمقرون بها أكثر وأكثر، من السلف والأئمة والعامة كانت الطريقة التي يسلكها أهل الإثبات فيها أقوى من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية.
وبيان ذلك أن اعتراف الفطر بأن الله فوق العالم أعظم من اعترافها بأنه يرى، ودلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة على ذلك أعظم من دلالة هذه الأصول على رؤية الله تعالى، واعتراف القلوب بأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما، أعظم من اعترافها بأن ما لا يمكن رؤيته لا يكون إلا معدوما، وما في القلوب من البديهة والضرورة إلى الأول أعظم مما فيها من الضرورة والبديهة إلى الثاني، كذلك اعترافها بديهة وضرورة بأن كل موجودين لا بد أن يكونا متباينين
[ ص: 314 ] أو متحايثين أعظم من اعترافها بأن كل موجود فلا بد وأن تمكن رؤيته.
وإذا كان الأمر كذلك، ظهر أن الطريقة القياسية التي سلكها
ابن الهيصم ونحوه في مسألة العلو أقوى من الطريقة التي سلكها
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري ونحوه،
وابن الهيصم أيضا في عين
nindex.php?page=treesubj&link=28725مسألة الرؤية، وكلاهما سلك طريقة ينصر بها الإثبات الذي جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة.
وكل ما ذكره
الرازي من القوادح في هذه الطريقة التي سلكها
ابن الهيصم، فإنما هي قدح في الأصول العقلية، التي سلكها أئمة
الأشعرية وغيرهم، فهدمه وهدم
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابن فورك ونحوه بما ذكروه لأصول أصحابهم وأئمتهم أعظم من هدمهم للأصول التي تذكرها
الكرامية وغيرهم في مسألة العرش، وهذا بين يعرفه من شدى شيئا من النظر في هذه المواضع، ومن عرف ما اعتمده
[ ص: 315 ] من الأصول في مسألة الرؤية وعلم ما اعتمده هؤلاء في مسألة العرش.
الأمر الثاني: أنا نذكر أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في الرؤية ليست من الضعف كما يظنه أتباع
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري مثل
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشهرستاني والرازي وغيرهما، بل لم يفهموا قعرها ولم يقدروا
nindex.php?page=showalam&ids=13711الأشعري قدره، بل جهلوا مقدار كلامه وحججه، وكان هو أعظم منهم قدرا وأعلم بالمعقولات والمنقولات ومذاهب الناس من الأولين والآخرين، كما تشهد به كتبه التي بلغتنا دع ما لم يبلغنا. فمن رأى ما في كتبه من ذكر المقالات والحجج، ورأى ما في كلام هؤلاء رأى بونا عظيما.
وإذا ظهر أن طريقهم في الرؤية أقوى مما يظنه هؤلاء كان ذلك تنبيها على أن طريقة
ابن الهيصم في العلو أولى أن تكون أقوى منها، وأن يكون القدح فيها دون القدح في تلك، ثم نبين إن شاء الله تعالى بالكلام المفصل أن عامة ما ذكره
الرازي من
[ ص: 316 ] القدح فيها قدح باطل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والله هو المسئول أن يوفقنا للكلم الطيب والعمل الصالح، وهو الذي يقوله، وإن كان فيه حكم بين هؤلاء الذين يخوضون أحيانا بكلام مذموم عند السلف، لكن قد ذكرنا غير مرة أن من حكم الشريعة إعطاء كل ذي حق حقه كما في السنن عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالت: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=676125أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم" وأن من كان منهم أقرب إلى الحق والسنة عرفت مرتبته، ووجب تقديمه في ذلك الأمر على ما كان أبعد عن الحق والسنة منه، قال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=15وأمرت لأعدل بينكم [الشورى: 15] وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=135يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله [النساء: 135] وقال في حق أهل الكتاب:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [المائدة: 42] وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق [المائدة: 48] فكيف الحال بين طوائف أهل القبلة، بل الحكم بين من فيه فجور ومن فيه بدعة بالعدل، ووضعهم مراتبهم، وترجيح هذا من الوجه
[ ص: 317 ] الذي هو فيه أعظم موافقة للشريعة والحق أمر واجب، ومن عدل عن ذلك ظانا أنه ينبغي الإعراض عن الجميع بالكلية فهو جاهل ظالم، وقد يكون أعظم بدعة وفجورا من بعضهم.
فَلَمَّا كَانَتْ
nindex.php?page=treesubj&link=29639مَسْأَلَةُ الْعُلُوِّ هِيَ فِي نَفْسِهَا أَعْظَمَ وَأَدِلَّتُهَا أَقْوَى وَأَكْثَرُ وَالْمُقِرُّونَ بِهَا أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ، مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْعَامَّةِ كَانَتِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يَسْلُكُهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فِيهَا أَقْوَى مِنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اعْتِرَافَ الْفِطَرِ بِأَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَعْظَمُ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِأَنَّهُ يُرَى، وَدَلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْتِرَافُ الْقُلُوبِ بِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ دَاخِلَ الْعَالِمِ وَلَا خَارِجَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعْدُومًا، أَعْظَمُ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعْدُومًا، وَمَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الْبَدِيهَةِ وَالضَّرُورَةِ إِلَى الْأَوَّلِ أَعْظَمُ مِمَّا فِيهَا مِنَ الضَّرُورَةِ وَالْبَدِيهَةِ إِلَى الثَّانِي، كَذَلِكَ اعْتِرَافُهَا بَدِيهَةً وَضَرُورَةً بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَبَايِنَيْنِ
[ ص: 314 ] أَوْ مُتَحَايِثَيْنِ أَعْظَمُ مِنِ اعْتِرَافِهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ.
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، ظَهَرَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْقِيَاسِيَّةَ الَّتِي سَلَكَهَا
ابْنُ الْهَيْصَمِ وَنَحْوُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ أَقْوَى مِنَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكَهَا
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيُّ وَنَحْوُهُ،
وَابْنُ الْهَيْصَمِ أَيْضًا فِي عَيْنِ
nindex.php?page=treesubj&link=28725مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ، وَكِلَاهُمَا سَلَكَ طَرِيقَةً يَنْصُرُ بِهَا الْإِثْبَاتَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ.
وَكُلُّ مَا ذَكَرَهُ
الرَّازِيُّ مِنَ الْقَوَادِحِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَلَكَهَا
ابْنُ الْهَيْصَمِ، فَإِنَّمَا هِيَ قَدْحٌ فِي الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ، الَّتِي سَلَكَهَا أَئِمَّةُ
الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ، فَهَدْمُهُ وَهَدْمُ
nindex.php?page=showalam&ids=13428ابْنِ فُورَكَ وَنَحْوِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ لِأُصُولِ أَصْحَابِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ أَعْظَمُ مِنْ هَدْمِهِمْ لِلْأُصُولِ الَّتِي تَذْكُرُهَا
الْكَرَّامِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ، وَهَذَا بَيِّنٌ يَعْرِفُهُ مَنْ شَدَى شَيْئًا مِنَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَمَنْ عَرَفَ مَا اعْتَمَدَهُ
[ ص: 315 ] مِنَ الْأُصُولِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَعَلِمَ مَا اعْتَمَدَهُ هَؤُلَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّا نَذْكُرُ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الَّتِي سَلَكَهَا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فِي الرُّؤْيَةِ لَيْسَتْ مِنَ الضَّعْفِ كَمَا يَظُنُّهُ أَتْبَاعُ
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيِّ مِثْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=14592الشَّهْرَسْتَانِيِّ وَالرَّازِيِّ وَغَيْرِهِمَا، بَلْ لَمْ يَفْهَمُوا قَعْرَهَا وَلَمْ يُقَدِّرُوا
nindex.php?page=showalam&ids=13711الْأَشْعَرِيَّ قَدْرَهُ، بَلْ جَهِلُوا مِقْدَارَ كَلَامِهِ وَحُجَجِهِ، وَكَانَ هُوَ أَعْظَمَ مِنْهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَمَ بِالْمَعْقُولَاتِ وَالْمَنْقُولَاتِ وَمَذَاهِبِ النَّاسِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، كَمَا تَشْهَدُ بِهِ كُتُبُهُ الَّتِي بَلَغَتْنَا دَعْ مَا لَمْ يَبْلُغْنَا. فَمَنْ رَأَى مَا فِي كُتُبِهِ مِنْ ذِكْرِ الْمَقَالَاتِ وَالْحُجَجِ، وَرَأَى مَا فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ رَأَى بَوْنًا عَظِيمًا.
وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فِي الرُّؤْيَةِ أَقْوَى مِمَّا يَظُنُّهُ هَؤُلَاءِ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ طَرِيقَةَ
ابْنِ الْهَيْصَمِ فِي الْعُلُوِّ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ أَقْوَى مِنْهَا، وَأَنْ يَكُونَ الْقَدْحُ فِيهَا دُونَ الْقَدْحِ فِي تِلْكَ، ثُمَّ نُبَيِّنُ إِنَّ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَلَامِ الْمُفَصَّلِ أَنَّ عَامَّةَ مَا ذَكَرَهُ
الرَّازِيُّ مِنَ
[ ص: 316 ] الْقَدْحِ فِيهَا قَدَحٌ بَاطِلٌ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَاللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْكَلِمِ الطِّيبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ أَحْيَانًا بِكَلَامٍ مَذْمُومٍ عِنْدَ السَّلَفِ، لَكِنْ قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرِيعَةِ إِعْطَاءَ كُلِّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=25عَائِشَةَ قَالَتْ: "
nindex.php?page=hadith&LINKID=676125أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ" وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ عُرِفَتْ مَرْتَبَتُهُ، وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=15وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشُّورَى: 15] وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=135يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النِّسَاءِ: 135] وَقَالَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=42وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [الْمَائِدَةِ: 42] وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: 48] فَكَيْفَ الْحَالُ بَيْنَ طَوَائِفِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، بَلِ الْحُكْمُ بَيْنَ مَنْ فِيهِ فُجُورٌ وَمَنْ فِيهِ بِدْعَةٌ بِالْعَدْلِ، وَوَضْعِهِمْ مَرَاتِبَهُمْ، وَتَرْجِيحُ هَذَا مِنَ الْوَجْهِ
[ ص: 317 ] الَّذِي هُوَ فِيهِ أَعْظَمُ مُوَافَقَةً لِلشَّرِيعَةِ وَالْحَقِّ أَمْرٌ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ ظَانًّا أَنَّهُ يَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَمِيعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ جَاهِلٌ ظَالِمٌ، وَقَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ بِدْعَةً وَفُجُورًا مِنْ بَعْضِهِمْ.