وبين هذا أن الجهمية ومن دخل فيهم من الملاحدة والفلاسفة والصابئين وغيرهم لا يعتقدون حقيقة الدعاء لله، ولا يؤمنون أن الله على كل شيء قدير، لاسيما من يقول منهم إنه موجب بالذات لا يمكنه أن يغير شيئا ولا يحدثه، فالدعاء عندهم إنما يؤثر تأثير النفوس البشرية وتصرفها في هيولي العالم، وإذا كان كذلك فهم في الحقيقة لا يقصدون الله أن يفعل شيئا ولا يحدث شيئا، ولا يطلبون منه شيئا، ولكن يقوون نفوسهم قوة يفعلون بها، والعلم الضروري حاصل [ ص: 527 ] بالفرق بين ما يفعله الحيوان بنفسه وبين ما يطلبه من غيره، فإذا كان دعاء العباد عندهم لا معنى له إلا أنهم يفعلون بأنفسهم، لم يكونوا داعين لله قط، ومن لم يكن داعيا لله فإنه لا يشير إليه عند الدعاء، بل ذلك عبث، بل قوله: يا الله افعل كذا عبث، وهذا حقيقة مذهب القوم، إبطال ما بعثت به الرسل من أنواع الأدعية وإبطال ما فطر الله عليه عباده من ذلك، وهؤلاء هم أصل التجهم والتعطيل فمن وافقهم في شيء من ذلك كان من الجاحدين، لأن يكون الله هو الموجود المقصود المدعو المعبود. هؤلاء
ولهذا تجد غالب هؤلاء النفاة - لأن يكون الله فوق العرش- فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ذلك، إلا من يكون منهم جاهلا بحقيقة مذهبهم يوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته وفطرته على الصحة والسلامة، فإنه يكون فيه إيمان ونفاق، فأما إذا استحوذ على قلبه تغيرت فطرته، وهؤلاء يعرضون عن دعاء الله وعبادته مخلصين له الدين عند الاختيار، ويجادلون في ذلك، لكن عند الاضطرار هم كما قال الله تعالى: ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص [الشورى: 32-35] لاسيما على أشهر القراءتين وهي قراءة [ ص: 528 ] النصب في قوله ويعلم فإن ذلك من باب قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
ومثل هذا في الإعراب قوله: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [آل عمران: 142] [ ص: 529 ] ومعنى آية الشورى أنه سبحانه إن شاء أسكن فيظللن رواكد على ظهره، وإن شاء أوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير. ويعلم الذين يجادلون في آياتنا. وهذا كله في جواب إن يشأ أي: وإن يشأ يهلكهن بذنوبهم ويعف أيضا عن كثير منها، ويجتمع مع ذلك علم المجادلين في آياتنا بأنهم ما لهم من محيص، فهو إن شاء جمع بين أن يهلك بعضا ويعفو عن بعض، وبين علم المجادلين في آياته حينئذ أنه ما لهم من محيص.