ومع هذا فالطرق النظرية تفيد العلم والمعرفة، ولا منافاة بين كون الشيء يعلم بالبديهة والضرورة ويكون عليه أدلة وهي نوعان:
أحدهما: الآيات كما يذكر الله ذلك في القرآن. والآية هي دليل عليه بعينه لا تدل على قدر مشترك بينه وبين غيره، فنفس الكائنات وما فيها وهو عين وجودها في الخارج مستلزم لوجود الرب، وهو آية له ودليل عليه وشاهد بوجوده بعينه، لا على قدر مشترك بينه وبين غيره.
الثاني: ضرب الأمثال والقياس، وهو نوعان: أحدهما: [ ص: 573 ] فهذا أيضا مما يذكره الله في القرآن، لكن عامة ما يستعمل هذا في صفاته كإثبات وحدانيته في إلهيته وقدرته ونحو ذلك. قياس الأولى والأحرى،
والثاني: الأقيسة المطلقة المنطقية أقيسة الشمول وهذه التي يسلكها هؤلاء النظار المتكلمون من [ ص: 574 ] المتفلسفة ومتكلمي أهل الملل، وهي أضعف الطرق وأقلها فائدة، وطريقة المتكلمين أجود، فإنهم يثبتون بها أن للعالم محدثا، وأما المتفلسفة فما يثبتون إلا وجودا واجبا ليس فيه أنه صانع العالم ولا باريه، ثم إن كلا من الصنفين لا بد أن يستعمل طريقته -قضية كلية- مثل قول أولئك: العالم محدث أو العالم فيه حوادث من جواهر وصفات وغير ذلك، [ ص: 575 ] وكل محدث فلا بد له من محدث. فإن هذه قضية كلية وهي مع كونها معلومة بالبديهة والضرورة فقد يثبتها كثير من وأقيسة التمثيل، المعتزلة بقياس التمثيل، وهو القياس على محدثات الآدمي من الدور والبنيان.
ومن المعلوم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث. هو علم يندرج فيه أن هذا المحدث لا بد له من محدث، وهذا المحدث لا بد له من محدث، ومن المعلوم أن علمه بهذه الأفراد المعينة أسبق إلى حسه وعقله من علمه بهذه القضية الكلية العامة، كما في نظائر ذلك، كما أن علمه هذا الإنسان يحس ويلتذ ويتألم قبل علمه بأن كل إنسان يحس ويلتذ ويتألم، إذ الأمور الموجودة الحسية يكون العلم بها قبل أن يعقل قضية عامة كلية. وإذا كان كذلك فعلم الإنسان بأن هذا المحدث الذي علم حدوثه كما يشهده من الحوادث أو يعلم حدوثه بدليل أو قياس علمه بأن هذا المحدث لا بد له من محدث لا يحتاج إلى أن يعلم قبل ذلك أن كل محدث فلا بد له من محدث، فلا يحتاج في العلم بالمحدث إلى هذه القضية الكلية [ ص: 576 ] والقياس المشتمل عليها، وإن كان ذلك أيضا من جملة الأقيسة والأمثال المضروبة التي يثبت بها ذلك، لكن ينبغي أن يكون على وجه الأولى بأن يقال: إذا كان هذا المحدث الصغير لا بد له من محدث، فهذا المحدث الكبير أولى.