الوجه الثاني والعشرون: أن يقال: لا نسلم أن سبب إشارة الناس إلى فوق هو ما ذكره، ولم يذكر على ذلك حجة بل ادعاه دعوى مجردة، فقال: سبب ذلك الإلف والعادة، فإنهم ما شاهدوا عالما قادرا حيا إلا جسما فيسبق إلى الوهم أن من يدعو عالما قادرا حيا على ما يشاهد عليه الأحياء [ ص: 600 ] القادرين، ويتبع ذلك أنه في مكان، فبسبب هذه الأمور وأمثالها وقعت الإشارة إلى السماء، ثم إن الأخلاف أخذوا ذلك عن الأسلاف مع مشاركتهم لهم في هذا التخيل، فظهر أن سبب ذلك الإلف، ولا يكون صوابا. ا هـ. ولأن العلو أشرف فيسبق إلى وهم الداعي أن من يعتقد عظمته إذا كان في جهة وجب أن يكون في جهة العلو،
فيقال له: هذا الذي قلته مجرد دعوى لم تذكر عليه حجة، وما ذكرته من التمثيل بالأسود والعربية إنما غايته تجويز أن يكون للإنسان اعتقاد غير مطابق سببه ذلك، فلم قلت: إن هذا من ذاك؟! وهذا بمنزلة أن يقال: هؤلاء غلطوا في وجدهم طعم هذه الفاكهة مرا، لأن الممرور يجد طعم الحلو مرا، أو غلطوا في رؤيتهم لهذين الشخصين، لأن الأحول يرى الواحد اثنين. فيقال له: هب أن الحس يغلط لفساد يعرض له؟ فلم قلت: إن حس هؤلاء مع كثرتهم قد غلط لفساد عرض له، وأعجب من ذلك قوله: فظهر أن سبب ذلك الإلف، ولم يظهر شيئا من ذلك، إلا أنه ظهر أنه ادعى ذلك، وظهور كونه ادعاه غير ظهور صحة دعواه.
[ ص: 601 ]