وأما قولهم: العقل يدرك هذا قبل هذا. قيل لهم: العقل يدرك الأمور على ما هي عليه، وإلا كان ذلك جهلا لا عقلا؛ فإن كان ذلك الشيء في نفسه مرتبا، فأدركه العقل مرتبا، وإلا كان إدراكه جهلا، ومتى كان المدرك مرتبا بحيث يكون بعضه قبل بعض فهذا هو الترتيب الزماني والتقدم الزماني، ويمتنع مع وجود هذا الترتيب الخارجي أن يكون زمانهما واحدا، ويمتنع مع كونهما غير متميزين في الزمان أن يكونا متميزين؛بل المتقدم سواء سمي شرطا أو علة أو غير ذلك / إن كان مقارنا في الزمان غير متقدم فيه، فليس متقدما بحال، وإذا كان متقدما فيه، وهو متقدم [في الزمان] [ ص: 209 ] فهو متقدم غير مقارن، وإذا كان كذلك، وقد قالوا إن العالم مقارن للباري، لا يقدر وقت يكون فيه الباري إلا ويكون فيه العالم، فقد أثبتوا مقارنة له مطلقا، ومنعوا أن يكون الباري متقدما عليه بوجه من الوجوه، ومن المعلوم ببديهة العقل أن الفاعل للشيء لا بد وأن يكون متقدما عليه، سواء سمي علة أو لم يسم، فإذا كان الفاعل لا يكون إلا متقدما على الفعل -وعلى أصلهم يمتنع أن يكون متقدما عليه- امتنع عندهم أن يكون رب العالمين أو خالقا للعالم، وأيضا فكل ما وجبت مقارنته لغيره كان وجوده متوقفا على وجود قرينه، فيكون وجود الباري ممتنعا إلا بوجود ما تجب مقارنته له وهو العالم، فيكون الباري محتاجا إلى العالم من هذا الوجه. فالجمع بين الضدين ممتنع، إما ترتيب وتقدم وتأخر؛ وإما مقارنة ليس فيها تقدم وتأخر. وإذا تبين ذلك ظهر أنه ليس فيما يعلمه الإنسان شيء متقدم على غيره بالعلية أو الشرط مع مقارنته له بالزمان؛
فإن قيل: إنه علة له؛ لا سيما إذا ثبت ذوات غنية عنه، فإنه يكون محتاجا إلى غيره قطعا، كما يصرح بذلك الاتحادية منهم حيث يجعلون الباري والعالم، كل منهما محتاجا إلى الآخر، ويكونون بما أوجبوه من مقارنة العالم له واحتياجه إليه، قد جعلوه كفوا له، كما أنهم بما أثبتوه من تولده عنه قد جعلوه والدا له، فجعلوا الخلق ولدا لله وكفوا له، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [الإسراء: 111] [ ص: 210 ] وقال تعالى: وهو سبحانه في غير موضع من كتابه نزه نفسه عن الشريك والولد، كما قال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [الفرقان: 1 - 2].
وقد ذكرنا أن الشيء وحده لا يولد شيئا، ولا يكون علة تامة؛ بل كل ما ولد شيئا فلابد له من شريك ومعين له، كالشمس التي لا يتولد شعاعها إلا بها وبما يقابلها، والجسم الذي لا يتولد الصوت عنه إلا بجسم آخر مماسه وملاقيه، كما أن الأعيان أيضا من الأولاد لا تتولد إلا عن أصلين. فكل مولد فهو محتاج إلى كفو يشاركه، ويعاونه على التولد.
وهؤلاء إذا زعموا أن العالم مقارن له فقد جعلوه محتاجا إليه من تلك الجهة، وأيضا فإذا جعلوه مولدا له فلابد له من توليده من شيء آخر، كما يقول بعضهم: هي أعيان الممكنات المستغنية عنه الثابتة في العدم، وكما يقول منهم من يقول بالقدماء الخمسة وأمثال ذلك مما فيه إثبات شيء غني عنه شريك له، وإن كان منهم من يحيل ذلك؛ بل محققوهم يحيلون ذلك للبدلاء لهم؛ إذ الواحد من كل وجه لا يكون علة [ ص: 211 ] ولا مولدا، وهذا ضد قولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؛ فإن المعلوم بالحس والعقل أن الواحد لا يصدر عنه شيء، ولا يصدر شيء ويتولد شيء إلا عن شيئين، فيكون الباري محتاجا إلى كفو وشريك وصاحبة يتولد العالم عنهما! قال سبحانه: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [الأنعام: 100-101] / وقال تعالى: قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني [يونس: 68] وهم في جعله مولدا للعالم وإثباتهم لمقارنة العالم إياه، هذه المقارنة التي يمتنع فيها تقدمه عليه واستقلاله بإبداعه، وقد جعلوه مفتقرا إلى بعض العالم محتاجا إلى غيره، كما تقدم من هذين الوجهين ضد ما أثبتوه من أنه واجب الوجود بنفسه، وهذه عادتهم: التناقض والجمع بين النفي والإثبات.