ثم نذكر التقسيم إلى آخره، حتى يلزم أن يكون الباري: إما حجما أو قائما بالحجم، والقوم لا يقولون به" فعنه جوابان: وقوله في الوجه الثاني: " إن كل موجود في الشاهد فهو إما حجم أو قائم بالحجم.
أحدهما: أن المعنى بالحجم في اللغة الظاهرة هو الشيء الكثيف المتحد: كالحجر والتراب، خلاف الهواء، فإنه لا يسمى في اللغة المشهورة حجما، فإن كان مقصوده هذا، فليس كل موجود في الشاهد إما حجما أو قائما بالحجم، وإن أراد به أن كل موجود في الشاهد قائم بنفسه أو قائم بالقائم في نفسه، فهذا مطرد في الغائب، وأن حال كل موجود في الشاهد فهو إما جسم وإما عرض أو إما جوهر وإما عرض، ويذكر التقسيم إلى آخره.
فيقال له: لفظ الجوهر والعرض في الاصطلاح الخاص ليس نفيهما عن الله من الشريعة، كما أنه ليس إثباتهما من [ ص: 381 ] الشريعة، بل سلف الأمة وأئمتها أنكروا على من تكلم بنفيها كما أنكروا التكلم بإثباتها أو أكثر، وعدوا ذلك بدعة، فليس لأحد أن ينفي بهذين اللفظين اللذين ليس لهما أصل لا في نص ولا في إجماع ولا أثر إلا بحجة منفصلة غير هذا اللفظ، إذ الحجج التي يستدل فيها باللفظ لا بد أن يكون لفظها منقولا عمن يجب اتباع قوله، وهو الكتاب والسنة أو الإجماع، فكيف باللفظ الذي لا ينقل عن إمام في الدين ولا أحد من سلف الأمة.
وأما المعاني المرادة بهذين اللفظين فلا بد من تفسيرها، فإن الناس متنازعون فيما يريدون بهذه الألفاظ من المعاني، ومتنازعون في لزوم تلك المعاني لبعض وغير ذلك. وإذ كان كذلك، فإن فسر مفسر معنى الجوهر والعرض بما لم يعلم انتفاؤه في حق الله تعالى كان ذلك طرد الدليل فلا ينتقض به، ولا ينتقض الدليل حتى يبين أن هذا التقسيم يمكن في بعض المعاني التي يجب نفيها عن الله تعالى. ولم يفعل ذلك !.
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن قوله: وهم لا يقولون به. قياس إلزامي، وقد تقدم أنه قد قال: إن هذا الدليل ليس بحجة لا في النظر ولا في المناظرة، وذلك أن هذا الدليل إن كان مستلزما ثبوت مسمى الجسم والعرض كان حجة عليهم في هذا [ ص: 382 ] الموضع، كما هو حجة على أولئك في المواضع الأخر. فإذا ذكروا فرقا فإن كان ذلك الفرق صحيحا لم يصح النقض بالجسم والعرض، وإن لم يكن الفرق صحيحا لم يكن نفيهم لمسمى الجسم والعرض صحيحا على التقديرين، فلا يلزم بطلان هذه الحجة.
الوجه الثالث: وأما قوله في الوجه الثالث: إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه في أي جهة كان - وساق التقسيم إلى آخره- حتى يلزم كونه محايثا للعالم أو مباينا عنه في أي جهة كان، وذلك يقتضي أن لا يختص بجهة فوق، بل يلزم صحة الحركة على ذاته من الفوق إلى السفل، وكل ذلك عند القوم محال، فعنه أجوبة:
أحدها: أنه ليس كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما محايثا للآخر أو مباينا عنه في أي جهة كان، بل من الأجسام الموجودة ما يمتنع من بقاء حقيقته أن يكون من الآخر إلا في جهة معينة، كما أن رأس الإنسان يمتنع أن يكون إلا فوق، وبطن قدمه يمتنع أن يكون إلا في أسفله، ولو غير ذلك خرج عن حقيقته، وكذلك العرش يمتنع أن يكون في أسفل سافلين، وأسفل سافلين يمتنع أن يكون فوق العرش.
[ ص: 383 ] الثاني أن يقال: ما تعني بقولك: فلا بد وأن يكون محايثا له أو مباينا عنه في أي جهة كان؟ أتعني أن العقل يشهد أنه لا بد من وجوب المباينة ولو بأي جهة كان أو تعني أنه لا بد مع وجوب المباينة من جواز المباينة من جميع الجهات، فهذان معنيان متغايران، فإن وجوب مطلق المباينة من غير تعيين جهة غير وجوب المباينة ووجوب جوازها بكل جهة، فإن عنى أن كل موجودين فإنه ولا بد أن يتحايثا أو يباين أحدهما الآخر، وأنه لا بد مع ذلك أن يجوز مباينته من جميع الجهات، فهذا القدر ليس معلوما بالبديهة ولا بالحس، وكثير من الناس ينازع في كثير من ذلك.
وبالجملة ليس هذا هو العلم البديهي الذي يعلم في المشهودات، فإنا لا نعلم أن كل ما هو قائم بنفسه يجوز أن يكون في جميع الجهات من كل قائم بنفسه، هذا لا يعلم بالبديهة بحال، وإذا لم يكن معلوما بالبديهة لم يجب أن يعلل بعلة تعم الوجود حتى نعلم ثبوته، وحينئذ فمن الناس من يقول ليس هذا ثابتا لجميع المخلوقات، ومنهم من يثبته للمخلوق دون الخالق، وإذا كان الأمر كذلك، فإن المنازع يقول: قد قام الدليل على أن هذا ليس ثابتا لجميع الموجودات، وليس هو مما علم بالبديهة أنه يشترك فيه جميع [ ص: 384 ] المشهودات، فلا يكون نظير حجتنا إذا علم اختصاصه ببعض الموجودات، فإنه يعلل بما يختص به.