الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                7113 ص: وروي عنه أنه قال : "لا تفضلوني على موسى " .

                                                حدثنا بذلك ابن مرزوق ، قال : ثنا وهب ، قال : حدثنا أبي ، قال : سمعت النعمان بن راشد يحدث ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله -عليه السلام - قال : "لا تخيروني على موسى ; فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى -عليه السلام - باطش بجانب العرش ، فلا أدري أصعق فيمن كان صعق فأفاق قبلي ، أو كان فيمن استثنى الله -عز وجل - " .

                                                فنهى رسول الله -عليه السلام - أن يفضلوه على موسى ، وقال لهم : "إني أول من يفيق من الصعقة ، فأجد موسى قائما ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان فيمن استثنى الله -عز وجل - ؟ " .

                                                فكان ذلك عندنا على أنه جاز عنده أن يكون فيمن استثنى الله -عز وجل - فلم تصبه الصعقة ، ففضل بذلك ، أو صعق فأفاق قبله فكان في منزلته ؟ لأنهما قد صعقا جميعا ، فكره النبي -عليه السلام - لذلك تفضيله عليه لما احتمل تخطي الصعقة إياه .

                                                [ ص: 127 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 127 ] ش: أي : وروي عن النبي -عليه السلام - أنه قال : "لا تفضلوني على موسى " ، أشار بهذا إلى أنه -عليه السلام - قد نهى أمته عن التفضيل بين الأنبياء -عليهم السلام - مطلقا ، ونهى أيضا عن تفضيلهم إياه على موسى -عليه السلام - خصوصا ، وجاء كلاهما في حديث أبي هريرة .

                                                فالأول : رواه الأعرج ، عنه ، عن النبي -عليه السلام - .

                                                والثاني : رواه سعيد بن المسيب ، عنه ، عن النبي -عليه السلام - .

                                                وكلا الإسنادين صحيح .

                                                وأخرجه مسلم أيضا : عن الدارمي ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة .

                                                وعن محمد بن حاتم ، عن يزيد بن هارون ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ، وعن زهير بن حرب وأبي بكر بن النضر ، عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة والأعرج ، عن أبي هريرة قال : "استب رجلان : رجل من اليهود ورجل من المسلمين ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدا على العالمين . قال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين . قال : فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى رسول الله ، فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، فقال رسول الله -عليه السلام - : لا تخيروني على موسى ; فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أم كان ممن استثنى الله ؟ " .

                                                قوله : "فإن الناس يصعقون يوم القيامة " الصعق : أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه ، وربما مات منه ، ثم استعمل في الموت كثيرا ، وليس المراد به ها هنا إلا المعنى الأول ; وذلك لأن الناس لا يموتون يوم القيامة ، وإنما يصعقون ، أي يغشى عليهم من شدة الأهوال حتى يصيروا كالموتى ، ثم يفيقون ، للحساب ، فيكون أول من يفيق منهم رسول الله -عليه السلام - ، فيرى موسى -عليه السلام - باطشا بجانب العرش أي متعلقا به بقوة .

                                                [ ص: 128 ] و"البطش " : الأخذ القوي الشديد .

                                                ثم إنه -عليه السلام - أخبر أنه لا يدري أكان موسى -عليه السلام - صعق فيمن كانوا صعقوا ، فأفاق قبله -عليه السلام - أو كان فيمن استثنى الله -عز وجل - من الملائكة ممن لا يصعقون ; وذلك لأجل مجازاته بصعقة الطور كما جاء في رواية أبي سعيد الخدري .

                                                أخرجها البخاري ومسلم : "لا تخيروني من بين الأنبياء ; فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور ؟ " .

                                                فإذا كان الأمر كذلك يكون تفضيله -عليه السلام - إياه لهذا المعنى الخاص ، ولا يلزم من تفضيل أحد على أحد في صفة خاصة أن يكون أفضل منه في جميع الصفات ، ويقال : وجه نهيه -عليه السلام - عن تفضيلهم إياه علىموسى -عليه السلام - كان لما ذكر من النزاع الكائن بين الأنصاري وبين اليهودي اللذين تنازعا عنده في الفضل عليهم والإخلال بالواجب في حقه ، في هذه القضية حين تنازع إليه الأنصاري واليهودي : "لا تفضلوا بين أنبياء الله ; فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من أبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أم بعث قبلي ؟ ولا أقول أن أحدا أفضل من يونس بن متى " .

                                                وها هنا قد نهاهم أن يفضلوا بين الأنبياء كلهم لما ذكرنا من المعنى ، ثم خصص موسى بالذكر قطعا لمادة النزاع وتطييبا لقلب اليهودي ، ثم عمم نفي تفضيل الأنبياء كلهم على يونس بن متى -عليه السلام - ، ولكن هذا له تأويلان :

                                                أحدهما : أن يكون أراد من سواه من الأنبياء دون نفسه .

                                                والثاني : أن يكون ذلك مطلقا فيه وفي غيره من الأنبياء -عليهم السلام - فيكون هذا

                                                [ ص: 129 ] القول على سبيل الهضم من نفسه وإظهار التواضع لربه -عز وجل - حتى قال في رواية أخرى : "لا ينبغي لي أن أقول : أنا خير منه" ; لأن الفضيلة التي بيننا كرامة من الله سبحانه وخصوصية منه لم أنلها من قبل نفسي ، ولا بلغتها بحولي وقوتي ; فليس لي أن أفتخر بها ، وإنما يجب علينا من شأنه و [ما] كان من قلة صبره على أذى قومه فخرج مغاضبا ولم يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، وبهذا حصل التوفيق أيضا بين قوله -عليه السلام - : "أنا سيد ولد آدم " ، وقوله : "لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى " .

                                                والجواب القاطع الفاصل في هذا الباب : أن الأنبياء كلهم سواء في حق النبوة والرسالة ، ولا نفضل بعضهم على بعض في هذا المعنى ، وإنما التفاضل في زيادات الأحوال والكرامات ، ونفي النبي -عليه السلام - تفضيل نفسه على موسى أو على غيره ، وتفضيل الأنبياء على يونس ونحو ذلك كله يرجع إلى تفضيل في حق النبوة ، وقد يقال : إن هذا كله يحتمل أن يكون قبل أن يوحى إليه بأنه خير الأنبياء وأفضلهم . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية