الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6184 6185 6186 ص: وقد روي عن رسول الله -عليه السلام - في تبيان ذلك ما قد حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا الوهبي ، قال : ثنا ابن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " قدمت أم سنبلة الأسلمية ، ومعها وطب من لبن تهديه لرسول الله -عليه السلام - ، فوضعته عنده ومعها قدح لها ، فدخل النبي -عليه السلام - فقال : مرحبا وأهلا يا أم سنبلة فقالت : بأبي أنت وأمي ، أهديت لك هذا الوطب من لبن ، قال : بارك الله عليك صبي في هذا القدح ، فصبت له في القدح ، فلما أخذه قلت : قد قلت لا أقبل هدية من أعرابي ! فقال : أأعراب أسلم يا عائشة ؟ ، إنهم ليسوا بأعراب ولكنهم أهل باديتنا ، ونحن أهل حاضرتهم ، إذا دعوناهم أجابونا وإذا دعونا أجبناهم ، ثم شرب " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، قال : ثنا يونس بن بكير ، قال : ثنا ابن إسحاق . . ... ، فذكر بإسناده مثله .

                                                [ ص: 556 ] حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : ثنا سعيد بن كثير بن عفير ، قال : ثنا سليمان بن بلال ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن عبد الله بن دينار ، عن عروة ، عن عائشة ، ، عن النبي -عليه السلام - بنحوه ، وزاد في آخره : " فليسوا بالأعراب " .

                                                فأخبر رسول الله -عليه السلام - أن من كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي ، فهو كالحضري ، وأن الأعراب المذمومين الذين لا تقبل هداياهم خلاف هؤلاء ، وهم الذين لا يجيبون إذا دعوا ، فمن كان كذلك لم تقبل شهادته وهم الذين عناهم رسول الله -عليه السلام - في حديث أبي هريرة الذي ذكرنا فيما نرى والله أعلم .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن النبي -عليه السلام - في بيان المراد من قوله : "لا تقبل شهادة البدوي على القروي " وهو حديث عائشة - رضي الله عنها - ، فإنه -عليه السلام - أخبر فيه أن من كان من أهل البادية ممن يجيب إذا دعي فهو كالحضري ، فمن كان كذلك فشهادته تقبل على الحضري وغيره ، ومن كان بخلاف ذلك فلا تقبل .

                                                وأخرجه من ثلاث صحاح :

                                                الأول : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن أحمد بن خالد الوهبي الكندي ، عن محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان المدني ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - .

                                                وأخرجه أبو يعلى في "مسنده " : نا عقبة بن مكرم ، نا يونس ، نا محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله -عليه السلام - يقول : "لا أقبل هدية من أعرابي ، فجاءته أم سنبلة الأسلمية بوطب لبن أهدته له ، فقال : أفرغي منه في هذا الثعب فأفرغت ، فتناوله فشرب ، وقلت : ألم تقل : لا أقبل هدية من أعرابي فقال : إن أعراب أسلم ليسوا بأعراب ، ولكنهم أهل باديتنا ، ونحن أهل حاضرتهم ، إن دعونا أجبناهم وإن دعوناهم أجابوا " .

                                                [ ص: 557 ] الثاني : عن إبراهيم بن أبي داود أيضا ، عن محمد بن عبد الله بن نمير شيخ الشيخين وأبي داود وابن ماجه ، عن يونس بن بكير الشيباني ، عن محمد بن إسحاق . . . . إلى آخره .

                                                الثالث : عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي ، عن سعيد بن كثير بن عفير ، عن سليمان بن بلال القرشي المدني ، عن عبد الرحمن بن حرملة بن عمرو المدني ، عن عبد الله بن نيار بكسر النون بعدها الياء آخر الحروف المخففة وفي آخره راء .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده " : ثنا يحيى بن غيلان ، نا المفضل ، حدثني يحيى بن أيوب ، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي ، عن عبد الله بن نيار الأسلمي ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : "أهدت أم سنبلة لرسول الله -عليه السلام - لبنا فلم تجده ، فقالت لها : إن رسول الله -عليه السلام - قد نهى أن يؤكل من طعام الأعراب ، فدخل رسول الله -عليه السلام - وأبو بكر فقال : ما هذا معك يا أم سنبلة ؟ قالت : لبن أهديته لك يا رسول الله ، قال : اسكبي أم سنبلة ، فسكبت ، فقال : ناولي أبا بكر ففعلت ، فقال : اسكبي أم سنبلة فسكبت ، فناولي عائشة فناولتها فشربت ، ثم قال : اسكبي أم سنبلة فسكبت فناولته رسول الله -عليه السلام - فشرب ، قالت عائشة : ورسول الله -عليه السلام - يشرب من لبن أسلم وأبردها على الكبد يا رسول الله ; قد كنت حدثت أنك قد نهيت عن طعام الأعراب ؟ ! فقال : يا عائشة : إنهم ليسوا بأعراب ، وهم أهل باديتنا ونحن أهل حاضرتهم ، وإذا دعوا أجابوا فليسوا بالأعراب " .

                                                قوله : "وطب " بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وفي آخره باء موحدة ، وهو الزق الذي يكون فيه السمن واللبن ، وهو جلد الجذع فما فوقه ، وجمعه أوطاب ووطاب .

                                                قوله : "أأعراب أسلم ؟ " أراد أن أسلم ليسوا بأعراب ، والهمزة الأولى فيه للاستفهام على سبيل الإنكار ، والثانية همزة الجمع ، وأسلم -بفتح اللام -

                                                [ ص: 558 ] ابن أقصى ، وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ، ومنهم سلمة بن الأكوع .

                                                وفي مذحج أسلم أيضا حي باليمن ، وهو أسلم بن أوس الله بن سعد العشيرة بن مذحج .

                                                وفي عيلة أسلم ، بطن ، وهو أسلم بن عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن عيلة ذكره ابن الكلبي .

                                                وأما الأعراب فقال الجوهري : هم سكان البادية خاصة ، والنسبة إلى الأعراب أعرابي ، لأنه لا واحد له من لفظه ، وليس الأعراب جمعا لعرب كما أن الأنباط جمع لنبط ، وإنما العرب اسم جنس .

                                                ومعنى قوله -عليه السلام - : "أسلم ليسوا بأعراب " وإن كانوا من سكان البادية ; لأنهم كالحضر في أحكام الدين وأحكام الشريعة والمعاملات مع الناس ، وليسوا كغيرهم من سكان البادية في الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشريعة ، وعدم الضبط في الأمور .

                                                قوله : "باديتنا " البادية خلاف الحاضرة ، والبادي خلاف الحاضر ، والحاضرة : هي المدن والقرى والريف ، يقال : فلان من أهل البادية وفلان من أهل الحاضرة .

                                                قوله : "عناهم " أي قصدهم ، وأراد بحديث أبي هريرة : الذي احتجت به أهل المقالة الأولى .




                                                الخدمات العلمية