الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى : أن رسول الله -عليه السلام - لما قال : "أتبرئكم يهود خمسين يمينا " لم يكن من اليهود رد الأيمان على الأنصار فيردها النبي -عليه السلام - ، فيكون ذلك حجة لمن يرى رد اليمين في الحقوق ، إنما قال : "أتبرئكم يهود خمسين يمينا " فقالت الأنصار : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ ! فقال النبي -عليه السلام - : أتحلفون وتستحقون ؟ " فقد يجوز أن يكون كذلك حكم القسامة ، ويجوز أن يكون على النكير منه عليهم إذ قالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ ! فقال لهم : أتحلفون وتستحقون " ، كما يقال : أيدعون ويستحقون ، فلما احتمل الحديث هذين الوجهين لم يكن لأحد أن يحكمه على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان يدله على ذلك ، فنظرنا فيما سوى هذا الحديث من الآثار المروية في هذا فإذا ابن عباس - رضي الله عنهما - قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " .

                                                فثبت بذلك أن المدعي لا يستحق بدعواه دما ولا مالا وإنما يستحق بها يمين المدعى عليه خاصة ، هذا حديث ظاهر المعنى وأولى بنا أن نحمل ما خفي علينا معناه من الحديث الأول على ذلك .

                                                [ ص: 462 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 462 ] ش: أي فكان من الدليل والبرهان على الآخرين لأهل المقالة الأولى وأراد بذلك الجواب عما احتجوا به من حديث سهل بن أبي حثمة وهو ظاهر .

                                                وقال ابن حزم : وأما حديث القسامة فاحتجاجهم به إحدى فضائحهم ; لأن المالكيين والشافعيين مخالفون لما فيه ، أما المالكيون فخالفوه جملة ، وأما الشافعيون فخالفوا ما فيه من إيجاب القود ، فكيف يستحلون الاحتجاج بحديث قد هان عليهم خلافه فيما فيه وزادوا من ذلك تثبيت الباطل الذي ليس في الحديث منه شيء أصلا ، وإنما في هذا الخبر تحليف المدعين أولا خمسين يمينا بخلاف جميع الدعاوى ، ثم رد اليمين على المدعى عليهم بخلاف قولهم ، فمن أين رأوا أن يقيسوا عليه ضده من تحليف المدعى عليه أولا فإن نكل ; حلف المدعي ، ولم يقيسوا عليه في تبرئة المدعي في سائر الدعاوى وأن يجعلوا الأيمان في كل دعوى خمسين يمينا ، فهل في التخليط وخلاف السنن وعكس القياس وضعف النظر أكثر من هذا النهي ؟ !

                                                وقال أبو عمر : في حديث القسامة أن المدعين الدم يبدءون بالأيمان في القسامة ، وهذا في القسامة خاصة ، وهو يخص قول النبي -عليه السلام - : "البينة على المدعي واليمين على ما أنكر " .

                                                وقد روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله -عليه السلام - : "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة " .

                                                قلت : ابتداء المدعين الدم بالأيمان لا يستلزم جواز رد اليمين على المدعي ولا فيه دلالة على هذا ، وحديث عمرو بن شعيب في إسناده مقال .

                                                فإن قيل : روى الحكم في "مستدركه " : من حديث سليمان بن عبد الرحمن ، ثنا محمد بن مسروق ، عن إسحاق بن الفرات ، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أن النبي -عليه السلام - رد اليمين على طالب الحق " .

                                                [ ص: 463 ] وروى البيهقي في "سننه " : من حديث حسين بن عبد الله بن ضميرة ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي - رضي الله عنه - قال : "اليمين مع الشاهد ، وإن لم يكن له بينة فاليمين على المدعى عليه إذا كان قد خالطه فإن نكل حلف المدعي " .

                                                قلت : سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ابن بنت شرحبيل قد تفرد به ، قال أبو حاتم : هو صدوق مستقيم الحديث ولكنه أروى الناس عن الضعفاء والمجهولين وكان عندي في حد لو أن رجلا وضع له حديثا لم يفهم وكان لا يميز وابن ضميرة ضعيف ، قال ابن حزم : الرواية عن علي - رضي الله عنه - ساقطة ; لأنها عن الحسين بن ضميرة ، عن أبيه ، وهو متروك ابن متروك لا يحل الاحتجاج بروايتهما فلم يصح في هذا عن أحد من الصحابة كلمة .

                                                فإن قيل : أخرج ابن وهب في "مسنده " : عن حيوة بن شريح أن سالم بن غيلان التجيبي أخبره أن رسول الله -عليه السلام - قال : "من كانت له طلبة عند أحد فعليه البينة والمطلوب أولى باليمين فإن نكل حلف الطالب وأخذ " .

                                                قلت : قال ابن حزم : هذا مرسل ولا حجة في مرسل عندنا ولا عند الشافعيين ، ثم لو صح لكان حجة على المالكيين ; لأنهم مخالفون لما فيه من عموم رد اليمين في كل طلبة طالب .

                                                قوله : فإذا ابن عباس . . . . إلى آخره .

                                                أخرجه مسلم :

                                                حدثني أبو الطاهر [أحمد] بن عمرو بن سرح قال : أنا ابن وهب ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، أن النبي -عليه السلام - قال : "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه " .

                                                [ ص: 464 ] وأخرجه البخاري أيضا ، والطحاوي على ما يأتي .




                                                الخدمات العلمية