الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها ) ; لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها ، وهو الإرضاع ، فإن هذا إيجار وليس بإرضاع ، وإنما لم يجب الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل .

التالي السابق


( قوله : فإن هذا إيجار وليس بإرضاع ) في الصحاح الوجور الدواء يوجر في وسط الفم : أي يصب ، تقول منه وجرت الصبي وأوجرته بمعنى . ا هـ . أقول : لقائل أن يقول : إذا كان هذا إيجارا لا إرضاعا فلا معنى ; لأن [ ص: 107 ] يقول في الكتاب في وضع هذه المسألة : وإن أرضعته في المدة بلبن شاة ، بل الظاهر أن يقول : وإن أوجرته بدل ، وإن أرضعته ، اللهم إلا أن يحمل على المشاكلة بملابسة مسألة استئجار الظئر التي وظيفتها الإرضاع تأمل . فإن قيل : الظئر أجير خاص أو أجير مشترك ؟ أجيب بأنها أجير خاص على ما دل عليه لفظ المبسوط ، فإنه قال فيه : ولو ضاع الصبي من يدها أو وقع فمات أو سرق من حلي الصبي أو من ثيابه شيء لم تضمن الظئر شيئا ; لأنها بمنزلة الأجير الخاص ، فإن العقد ورد على منافعها في المدة ; ألا يرى أنه ليس لها أن تؤجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل ، والأجير الخاص أمين فيما في يده . ا هـ .

ويحتمل أن تكون أجيرا خاصا وأن تكون أجيرا مشتركا على ما دل عليه لفظ الذخيرة ، فإنه قال فيها : وإن آجرت الظئر نفسها من قوم آخرين ترضع صبيانهم ، ولا يعلم بذلك أهلها الأولون حتى يفسخوا هذه الإجارة فأرضعت كل واحد منهما وفرغت فقد أثمت ، وهذه جناية منها ولها الأجر كاملا على الفريقين . ا هـ . وجه الدلالة على احتمالهما أنها لو كانت أجير وحد من كل وجه لم تستحق الأجر كاملا وأثمت بما صنعته ، ولو كانت أجيرا مشتركا من كل وجه استحقت الأجر كاملا ولا تأثم فكانت بينهما ، فقلنا بأنها لا تستحق الأجر كاملا لشبهها بالأجير المشترك ، وبأنها تأثم لشبهها بأجير الوحد . هذا زبدة ما ذكره صاحب النهاية هاهنا واقتفى أثره صاحب العناية ، غير أنه اعترض على دلالة لفظ المبسوط على كونها أجيرا خاصا حيث قال : وفيه نظر ; لأنه قال : لأنها بمنزلة الأجير الخاص لا عينه . انتهى .

أقول : نظره ساقط ، فإن المراد بدلالة لفظ المبسوط عليه دلالة قوله فإن العقد ورد على منافعها في المدة ، وتنويره بقوله ألا يرى أنه ليس لها أن تؤجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل ، فإن كلا منهما يدل قطعا على أنها أجير خاص ; لأن ورود العقد على المنفعة في المدة وعدم جواز إيجار النفس من غير المستأجر من خواص الأجير الخاص . [ ص: 108 ] وأما قوله : بمنزلة الأجير الخاص فيجوز أن يراد به بمنزلة الأجير الخاص المعروف الذي لا اشتباه فيه لأحد ، وهذا لا ينافي أن تكون هي عين جنس الأجير الخاص . ثم إن بعض الفضلاء قال : ولعل الأولى في الجواب أن يقال : إن قدم المستأجر ذكر المدة بأن يقول استأجرتك سنة لترضعي ولدي هذا تكون خاصا ، وإن قدم ذكر العمل تكون مشتركا على قياس ما قيل في استئجار الراعي . ا هـ .

أقول : ليس ذلك الجواب بتام إذ يرد عليه أن يقال لو كانت الظئر أجيرا خاصا على الثبات فيما إذا قدم المستأجر ذكر المدة لما استحقت الأجر كاملا إذا آجرت نفسها من قوم آخرين لترضع صبيانهم مع أنها تستحقه كاملا على الفريقين ولكن تأثم كما نقلناه عن الذخيرة ، وذكر في سائر المعتبرات أيضا . وعن هذا قال في الذخيرة والمحيط البرهاني بعد بيان استحقاقها الأجر كاملا على الفريقين : وهذا لا يشكل إذا قال أبو الصغيرة للظئر استأجرتك لترضعي ولدي هذا سنة بكذا ; لأن الظئر في هذه الصورة أجير مشترك ; لأن الأب أوقع العقد أولا على العمل ، وإنما يشكل فيما إذا قال لها استأجرتك سنة لترضعي ولدي هذا بكذا ; لأنها أجير وحد في هذه الصورة ; لأنه أوقع العقد على المدة أولا ، وليس لأجير الوحد أن يؤجر نفسه من آخر . وإذا آجر لا يستحق تمام الأجر على المستأجر الأول ويأثم .

وجه ذلك أن أجير الوحد في الرضاع يشبه الأجير المشترك من حيث إنه يمكنه إيفاء العمل لكل واحد منهما بتمامه كما في الخياط والقصار ، ثم لو كانت أجير وحد من كل وجه لم تستحق الأجر كاملا على الأول وتأثم بما صنعته ، ولو كانت أجيرا مشتركا من كل وجه استحقت الأجر كاملا ، ولم تأثم فإذا كانت بينهما قلنا بأنها تستحق الأجر كاملا لشبهها بالأجير المشترك وقلنا بأنها تأثم لشبهها بالأجير الوحد . ا هـ . فقد ظهر أن بمجرد تقديم المستأجر ذكر المدة لا يتم كون الظئر أجير وحد من كل وجه فلا بد من التفصيل واعتبار الشبهين كما ذكر في الذخيرة والمحيط البرهاني واختاره الشراح في الجواب فتبصر .




الخدمات العلمية