الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس فيها جاز وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس ) أما الرجوع فلما بينا ، وأما الجواز فلأنها منفعة معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة . وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير فيكلف تفريغها ، ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه ; لأن المستعير مغتر غير مغرور حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرناه ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد [ ص: 15 ] ( وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع ) ; لأنه مغرور من جهته حيث وقت له ، والظاهر هو الوفاء بالعهد ويرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه . كذا ذكره القدوري في المختصر . وذكر الحاكم الشهيد أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه وبنائه ويكونان له ، إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما فيكون له ذلك ; لأنه ملكه .

قالوا : إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض ; لأنه صاحب أصل والمستعير صاحب تبع والترجيح بالأصل ، ولو استعارها ليزرعها لم تؤخذ منه حتى يحصد الزرع وقت أو لم يوقت . ; لأن له نهاية معلومة ، وفي الترك مراعاة الحقين ، [ ص: 16 ] بخلاف الغرس ; لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك .

التالي السابق


( قوله : وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع ) قال صاحب الغاية : أي نقصان البناء والغرس على أن ما مصدرية ، ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي ، فعلى هذا يكون البناء والغرس منصوبين ، وعلى الأول يكونان مرفوعين . ا هـ كلامه . وتبعه الشارح العيني . أقول : لا يظهر وجه صحة لكون البناء والغرس منصوبين هاهنا ; لأن الذي نقص البناء والغرس إنما هو القلع فيصير المعنى على تقدير نصب البناء والغرس وضمن المعير قلع البناء والغرس ، وليس هذا بصحيح ; لأن القلع ليس من جنس ما يضمن بل هو سبب الضمان ، وإنما المضمون قيمة البناء المنتقضة بالقلع ، ويمنع أيضا صحة المعنى على ذلك التقدير قوله : بالقلع إذ يصير المعنى حينئذ وضمن المعير القلع بالقلع ، ولا يخفى ما فيه .

فالوجه عندي هاهنا رفع البناء والغرس لا غير . أما على تقدير كون ما مصدرية فواضح . وأما على تقدير كونها موصولة فبتقدير الضمير الراجع إليها على أن يكون تقدير الكلام وضمن المعير ما نقص البناء والغرس فيه بالقلع ، وهو القيمة . فيكون كلمة نقص هاهنا من نقص في دينه وعقله كما ذكر في القاموس .

وقال صاحب العناية : ووجه قوله ما نقص البناء والغرس أن ينظر كم يكون قيمة البناء ، والغرس إذا بقي إلى المدة المضروبة فيضمن ما نقص من قيمته ، يعني إذا كان قيمة البناء إلى المدة المضروبة عشرة دنانير مثلا ، وإذا قلع في الحال تكون قيمة النقص دينارين يرجع بهما . انتهى كلامه .

وقد كان صاحب الكفاية وتاج الشريعة ذكر معنى هذا المقام ومثاله على المنوال الذي ذكره صاحب العناية غير أنهما قالا بدل قوله يرجع بهما فيرجع بثمانية دنانير فكأن بعض العلماء أخذ مما قالاه حصة فأورد على ما ذكره صاحب العناية حيث قال فيه [ ص: 16 ] كلام ، وهو أن القلع ما نقص دينارين بل نقص ثمانية دنانير فينبغي أن يرجع بها كما لا يخفى انتهى . أقول : لعل صاحب العناية أراد بقيمة النقص في قوله تكون قيمة النقص دينارين نقصان القيمة على طريقة القلب ، ولا يخفى أنه إذا كان نقصان القيمة بالقلع دينارين كان التفاوت بين القيمتين بدينارين فيرجع بهما قطعا . وأما صاحب الكفاية وتاج الشريعة فكأنهما أرادا بقيمة النقص معنى قيمة الناقص ، وإذا كان قيمة الناقص بالقلع دينارين يكون التفاوت بين القيمتين بثمانية دنانير فيرجع بثمانية دنانير ، وبهذا ظهر توجيه كلام كل من طائفتي هؤلاء الشراح .

واندفع ما أورده ذلك البعض من العلماء على ما ذكره صاحب العناية كما لا يخفى . وأجاب بعض الفضلاء عن ذلك بوجه آخر حيث قال : فأقول الظاهر أن قوله قيمة النقص من إضافة الموصوف إلى الصفة أي القيمة المنقوصة فلا إشكال انتهى كلامه . أقول : ليس هذا بسديد ، إذ لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة ولا إضافة الصفة إلى الموصوف على المذهب المنصور المختار حتى تقرر في عامة متون النحو وشاع أن الموصوف لا يضاف إلى صفته ولا الصفة إلى موصوفها ، وإنما جواز ذلك مذهب سخيف كوفي لا ينبغي أن يصار إليه في توجيه كلام الثقات ، على أن النقص فيما نحن فيه لا يصلح أن يكون صفة للقيمة إلا بعد أن يجعل مجازا عن المفعول فيكون بمعنى المنقوصة ، وهذا تعسف بعد تعسف ، ولعمري إن من عادة ذلك الفاضل أن يتشبث بذلك المذهب السخيف مع تكلف آخر في توجيه بعض المقامات ، وقد مر منه ذلك غير مرة ، ومع ذلك يزعمه معنى لطيفا ظاهرا كما يلوح به .

قوله : هاهنا فأقول : الظاهر أن قوله قيمة النقص من إضافة الموصوف إلى الصفة وما كان ينبغي له ذلك ( قوله : بخلاف الغرس ; لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك ) أقول : لقائل أن يقول : إذا كان وقت في الغرس كان له نهاية معلومة بالتوقيت فينبغي أن لا تؤخذ الأرض منه هنا أيضا إلى تمام ذلك الوقت مراعاة للحقين . والجواب أن المراد أن الغرس ليس له في نفسه نهاية معلومة ، وبالتوقيت لا يتقرر له نهاية لجواز أن لا يقلعه المستعير في تمام ذلك الوقت ، إما بعمد منه لخيانة نفسه ، أو بمانع يمنعه عنه فيلزم أن يتضرر المالك ، بخلاف الزرع فإن له في نفسه نهاية معلومة لا يتأخر عنه بالضرورة فافترقا .

وأما ما قاله بعض الفضلاء من أن الضرر لصاحب البناء والغرس متعين سواء وقت أو لا ، إذ ليس لهما نهاية معلومة فلا يمكن مراعاة الحقين ، بخلاف الزرع فليس بتام ; لأن تعين الضرر لصاحب البناء والغرس ممنوع ، إذ يجوز أن يسكن صاحب البناء في البناء شتاء ثم ينقض البناء إذا جاء الصيف ، وأن يغرس صاحب الغرس الشجر ثم يقلعه بعد مدة ليبيعه كما هو العادة ، فإذا وقت المعير العارية بالمدة المعتادة في نقض مثل ذلك البناء وقلع مثل ذلك الشجر ولم تؤخذ الأرض من يد المستعير إلى تمام تلك المدة لم يتضرر صاحب البناء والغرس أصلا ، ومما يؤيد هذا ما ذكره صاحب الكفاية وتاج الشريعة عند شرح قول المصنف ثم إذا لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه ; لأن المستعير مغتر غير مغرور ، [ ص: 17 ] حيث قال : فإن قيل هو مغرور ; لأنه إن لم يوقت صريحا لكن وقت دلالة ; لأن البناء والغرس للدوام فكانت الإعارة له توقيتا . قلنا : البناء قد يبنى لمدة قليلة بأن يسكن شتاء ثم ينقض إذا جاء الصيف ، والشجر قد يغرس ثم يقلع بعد زمان ليباع كما هو العادة . انتهى كلامهما تأمل ترشد .




الخدمات العلمية