الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ بالله أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى يكره بأمر [ ص: 241 ] يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه ) لأن الإكراه بهذه الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر ، ففي الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى . قال ( وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به ويوري ، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا إثم عليه ) لحديث عمار بن ياسر رضي الله عنه حيث ابتلي به ، وقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام { كيف وجدت قلبك ؟ قال مطمئنا بالإيمان ، فقال عليه الصلاة والسلام : فإن عادوا فعد ، وفيه نزل قوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } } الآية [ ص: 242 ] ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق ، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه . قال ( فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا ) لأن { خبيبا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء ، وقال في مثله هو رفيقي في الجنة } ولأن الحرمة باقية ، والامتناع لإعزاز الدين عزيمة ، بخلاف ما تقدم للاستثناء . .

التالي السابق


( قوله فقال عليه الصلاة والسلام { فإن عادوا فعد } إلخ ) قال جمهور الشراح : معنى قوله عليه الصلاة والسلام { فإن عادوا فعد } إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب لا إلى إجراء كلمة الكفر والطمأنينة جميعا كما زعمه البعض ، لأن أدنى درجات الأمر الإباحة فيلزم أن يكون إجراء كلمة الكفر مباحا ، وليس كذلك لأنه لا تنكشف حرمته أصلا انتهى .

وعزاه في النهاية ومعراج الدراية إلى مبسوط شيخ الإسلام . وأورد عليه بعض الفضلاء بأن قال : فيه بحث ، فإنه قد يكون الأمر للترخيص . قال العلامة النسفي في أول كتاب الطلاق من الكافي : الأمر بالشيء لا ينفي الحظر ، فإن المحظور قد يرخص بصيغة الأمر حتى لا يقع في محظور فوقه كالحنث في اليمين وقطع الصلاة إلى آخر ما ذكره هناك ، فلم لا يجوز أن يكون ما ذكره هنا كذلك انتهى .

أقول : مراد الشراح أن أدنى درجات ما استعمل فيه صيغة الأمر حقيقة هو الإباحة ، وإنما تستعمل في الترخيص ونحوه مجازا ، ولا بد في المجاز من قرينة صارفة عن الحمل على الحقيقة ، وفيما نحن فيه لم توجد القرينة فلا جرم نحملها على الحقيقة ، وحقيقة الأمر إنما تتصور هاهنا بصرف الإعادة إلى الطمأنينة دون إجراء كلمة الكفر لما بينوا .

وعن هذا قال العلامة النسفي هاهنا أي عد إلى طمأنينة القلب بالإيمان وما قيل فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير فغلط ، لأنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر [ ص: 242 ] بالتكلم بكلمة الشرك إلى هنا كلامه ( قوله لأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام التصديق ، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه الميل إليه ) قال صاحب العناية في شرح هذا المقام : قوله ولأن بهذا الإظهار دليل معقول .

ووجهه أن الإيمان لا يفوت بهذا الإظهار حقيقة لأن الركن الأصلي فيه هو التصديق وهو قائم حقيقة ، والإقرار ركن زائد وهو قائم تقديرا ، لأن التكرار ليس بشرط ، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فكأنما اجتمع فيه فوت حق العبد يقينا وفوت حق الله توهما فيسعه الميل إلى إحياء حقه ا هـ كلامه . أقول : في تقريره خلل .

أما أولا فإن قوله لأن التكرار ليس بشرط في تعليل قوله وهو قائم تقديرا ليس بسديد ، لأن عدم اشتراط التكرار لا يستدعي قيام الإقرار تقديرا ، إذ لا بد فيه من أن لا يطرأ عليه ما يضاده كما تقرر في موضعه ، والمفروض هاهنا طريانه عليه ، إذ الكلام في إظهار كلمة الكفر وهو مضاد للإقرار باللسان . فإن قلت : إظهارها إكراها لا يضاده الإقرار طواعية ، وإنما يضاده إظهارها طواعية . قلت : هذا مبني على جواز إظهارها حالة الإكراه وهو أول المسألة ، فأخذه في أثناء إقامة الدليل عليها مصادرة فبهذا ظهر سقوط ما قاله بعض الفضلاء هاهنا إنه ككلام الناسي وجوده بمنزلة العدم ، فإنه أيضا مبني على أول المسألة فيستلزم المصادرة .

وأما ثانيا فلأن قوله فكان مما اجتمع فيه فوت حق العبد يقينا ، وفوت حق الله تعالى توهما يشعر بعدم فوت حق الله تعالى حقيقة هاهنا أصلا ، وليس كذلك إذ لولا فوت حقه تعالى حقيقة أصلا لما كان مأجورا فيما إذا صبر حتى قتل ، ولا نسلم قول المصنف فيما سيأتي ، ولأن الحرمة باقية ، إذ الظاهر أن الحرمة لا تثبت بمجرد توهم فوت حقه تعالى بدون أن يفوت حقيقة ، بل التحقيق أن إجراء كلمة الكفر على اللسان حرام في كل حال لا يسقط عنه الحرمة أصلا ، وأن فيه ترك حق من حقوق الله تعالى ، بل هو كفر صورة في حالة الإكراه ، وكفر صورة ومعنى في حالة صحة الاختيار كما صرح به في كتب الأصول ، إلا أن المبتلى بالإكراه عليه يصير معذورا حالة الإكراه فيسعه الميل إليه عند طمأنينة القلب إحياء لحقه مع بقاء حرمته أبدا .

( قوله ولأن الحرمة باقية ، والامتناع لإعزاز الدين عزيمة ) ، بخلاف ما تقدم للاستثناء ( واعترض عليه بأن إجراء كلمة الكفر أيضا مستثنى بقوله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ ص: 243 ] من قوله { من كفر بالله من بعد إيمانه } فينبغي أن يكون مباحا كأكل الميتة وشرب الخمر ) .

وأجيب بأن في الآية تقديما وتأخيرا وتقديره : من كفر بالله من بعد إيمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، فالله تعالى ما أباح إجراء كلمة الكفر على لسانهم حالة الإكراه ، وإنما وضع عنهم العذاب والغضب ، وليس من ضرورة نفي الغضب وهو حكم الحرمة عدم الحرمة ، لأنه ليس من ضرورة عدم الحكم عدم العلة كما في شهود الشهر في حق المسافر والمريض ، فإن السبب موجود والحكم متأخر ، فجاز أن يكون الغضب منتفيا مع قيام العلة الموجبة للغضب وهي الحرمة فلم يثبت إباحة إجراء كلمة الكفر ، كذا في عامة الشروح . وعزاه في النهاية إلى مبسوط شيخ الإسلام .

قال صاحب العناية بعد ذكر السؤال والجواب : وفيه نظر ، لأن المراد بالعلة إن كان هو المصطلح فذاك ممتنع التخلف على الحكم الذي هو معلوله ، وإن كان المراد بها السبب الشرعي كما مثل به فإنما يتخلف الحكم عنه بدليل آخر شرعي يوجب تأخيره كما في المثال المذكور من قوله تعالى { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ولا دليل فيما نحن فيه على ذلك ا هـ .

أقول : هذا النظر ساقط جدا ، فإنه يصح أن نختار كل واحد من شقي الترديد ولا يلزم محذور أصلا ، إذ يجوز أن يراد بالعلة ما هو المصطلح عليه في علم الأصول ، وهو ما كان خارجا عن الشيء مؤثرا فيه .

قوله فذاك ممتنع التخلف عن الحكم الذي هو معلوله ممنوع ، فإن وجوب مقارنة العلة الشرعية للمعلول إنما هو في بعض أقسامها ، وهو ما كان علة اسما ومعنى وحكما دون بعضها الآخر وهو ما كان علة اسما فقط أو اسما ومعنى كما تقرر ذلك كله في علم الأصول ، فيجوز أن تكون العلة فيما نحن فيه من قبيل الثاني فلا يمتنع التخلف ، ويجوز أن يراد بها السبب الشرعي كما هو الظاهر من التمثيل ، وهو ما كان خارجا عن الشيء [ ص: 244 ] ولم يكن مؤثرا فيه بل كان موصلا إليه في الجملة . وقوله فإنما يتخلف الحكم عنه بدليل آخر شرعي يوجب تأخيره ممنوع ، بل [ ص: 245 ] السبب الشرعي مطلقا من حيث إنه سبب يجوز تخلف الحكم عنه ، إذ لا بد أن يتوسط بينه وبين الحكم علة ، فما لم تتحقق تلك العلة لا يتحقق الحكم بمجرد السبب ، وهذا أيضا مع كونه مقررا في علم الأصول مفهوم من نفس معنى السبب الشرعي ، فإن الإيصال في الجملة كيف يستلزم تحقق الحكم ، والمثال المذكور في الجواب ليس في معرض التعليل لتخلف الحكم عن السبب الشرعي بل هو مسوق لمجرد التمثيل ، فتحقق دليل شرعي يدل على جواز تأخير الحكم هناك لا يقتضي قيام دليل شرعي على جواز ذلك في كل صورة على حدة ، على أنه يمكن أن يجعل حديث خبيب دليلا على بقاء الحرمة فيما نحن فيه بعد أن نفى حكمه وهو الغضب ، فإن خبيبا رضي الله عنه لما أكره على إظهار كلمة الكفر فصبر ولم يظهرها حتى قتل مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سماه سيد الشهداء وقال { هو رفيقي في الجنة } ولو لم تبق الحرمة أبدا في إظهار كلمة الكفر لما وسعه الصبر على ما توعد به من القتل ، ولما استحق المدح في ذلك لأن في الامتناع عن المباح في تلك الحالة إعانة الغير على إهلاك نفسه وهي حرام ، فيلزم أن يأثم بذلك كما في حالة المخمصة كما مر




الخدمات العلمية