الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز ) ; لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين يحيط بكسبه ( وإن باعه بنقصان لم يجز مطلقا ) ; لأنه متهم في حقه ، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة ; لأنه لا تهمة فيه ، وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده ، [ ص: 302 ] لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه حتى كان لأحدهم الاستخلاص بأداء قيمته . أما حق الغرماء تعلق بالمالية لا غير فافترقا . وقال أبو يوسف ومحمد : إن باعه بنقصان يجوز البيع ، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة ، وإن شاء نقض البيع ، وعلى المذهبين اليسير من المحاباة والفاحش سواء . ووجه ذلك أن الامتناع لدفع الضرر عن الغرماء وبهذا يندفع الضرر عنهم ، وهذا [ ص: 303 ] بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة ، والمولى يؤمر به ; لأن البيع باليسير منهما متردد بين التبرع والبيع لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع في حق الأجنبي لانعدامها ، وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز أصلا عندهما ، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة ; لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى ، ولا إذن في البيع مع الأجنبي وهو إذن بمباشرته بنفسه ، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء ، وهذان الفرقان على أصلهما .

التالي السابق


. ( قوله وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز ; لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين ) أقول : في هذا التعليل شيء ، وهو أن الظاهر أن جواب هذه المسألة باتفاق أصحابنا كما يدل عليه عدم ذكر الخلاف في الكتاب ، وقد صرح به في غاية البيان حيث قال : اعلم أن العبد المأذون المديون إذا باع من مولاه شيئا بمثل قيمته جاز باتفاق أصحابنا جميعا ا هـ . وكونه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين غير ظاهر على أصل أبي يوسف ومحمد ، إذ قد مر في المسألة الأولى أنهما قالا : المولى يملك ما في يد العبد المأذون ولو أحاطت ديونه بماله ورقبته ، ولهذا لو أعتق من كسبه عبدا يعتق عندهما فكيف يتم القول بأن المولى كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على أصلهما حتى يتمشى التعليل المذكور على قولهم جميعا فليتأمل في التوجيه .

( قوله وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده ) قال صاحب النهاية : وهذا الخلاف متعلق بأول المسألة ، وهو قوله وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز هذا على تقدير الواو في قوله وبخلاف ا هـ . ورد عليه صاحب العناية حيث قال بعد نقل ذلك عنه . [ ص: 302 ] وليس بصحيح ; لأنه معطوف بلا معطوف عليه ، بل المناسب لذلك عدم الواو ا هـ .

أقول : بل قوله ; لأنه معطوف بلا معطوف عليه ليس بصحيح ، فإنه معطوف حينئذ على قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله على أن يكون معنى الكلام وهاتان المسألتان : أعني قول القدوري وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز ، وقوله وإن باعه بنقصان لم يجز ملابستان ، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي ، وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته ، لكن على التوزيع بطريق اللف والنشر الغير المترتب : أي المسألة الثانية ملابسة ، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي والمسألة الأولى ملابسة ، بخلاف ما إذا باع المريض من [ ص: 303 ] الوارث بمثل قيمته ، لا أن كلتا المسألتان ملابستان بكلا الخلافين ، فإذن يتحقق المعطوف عليه ويصح المعنى كما لا يخفى .

ثم إن في تصحيح العطف على تقدير الواو توجيها آخر أشار إليه صاحب معراج الدراية حيث قال : قوله وبخلاف ما إذا باع المريض متعلق بأول المسألة ومعطوف على قوله وإن باعه بنقصان لم يجز من حيث المعنى . تقدير الكلام : وإن باع من المولى بمثل قيمته [ ص: 304 ] جاز ، بخلاف ما إذا باع بالنقصان حيث لم يجز ، وبخلاف ما إذا باع المريض ، هذا على تقدير الواو في قوله وبخلاف ا هـ .

والعجب أن صاحب العناية وإن لم يطلع على ما ذكرناه أولا من التوجيه الوجيه ، إلا أن الظاهر أنه قد رأى توجيه صاحب معراج الدراية ، ومع ذلك جزم بأنه معطوف بلا معطوف عليه بدون أن يبين الفساد في توجيه صاحب معراج الدراية . نعم في توجيهه تمحل لا يخفى ، ولكن لا يخفى أيضا أنه ليس بأبعد وأقبح مما اختاره صاحب العناية نفسه حيث قال : والظاهر عدم الواو بجعله متعلقا بأول المسألة ، وفي كلامه تعقيد إلى آخر ما ذكره كما سيأتي نقله وبيان حاله .

وقال صاحب النهاية بعد كلامه السابق : ويجوز أن يكون بدون الواو فيتعلق بحكم قوله المتصل به . وهو قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي : أي أنه يجوز في كل حال : أعني إذا كانت المحاباة يسيرة أو فاحشة أو كان البيع بمثل القيمة ، وبيع المريض من وارثه لا يجوز عند أبي حنيفة في كل حال من هذه الأحوال ، وهذا أوجه ، ولكن النسخة بالواو تأباه ، ا هـ كلامه . ورد عليه صاحب العناية كلامه هذا أيضا حيث قال بعد نقله أيضا عنه : قلت ذلك أوجه من حيث اللفظ بالقرب دون المعنى ; لأن المفهوم من قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي جواز المحاباة معه مطلقا ، ولا يرد بيع المريض من وارثه بمثل القيمة إشكالا عليه حتى يحتاج إلى الجواب ا هـ .

أقول : ليس هذا أيضا بوارد ; لأنه كما يفهم من قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي جواز المحاباة معه مطلقا ، كذلك يفهم منه جواز بيعه منه بمثل القيمة ، غير أن الأول مفهوم بالعبارة والثاني مفهوم بالدلالة ; لأنه إذا جازت المحاباة معه فلأن جاز البيع منه بمثل القيمة أولى كما لا يخفى . وعن هذا قال صاحب العناية في تفسير قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي : أي أنه يجوز في كل حال : أعني إذا كانت المحاباة يسيرة أو فاحشة أو كان البيع بمثل القيمة فإذن اتجهت المطالبة بالفرق بين بيع العبد من الأجنبي وبين بيع المريض من الوارث حيث جاز الأول دون الثاني ، مع أن في كل منهما تعلق حق الغير بالمبيع فاحتاج إلى الجواب عنها بقوله بخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده ; لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه : [ ص: 305 ] يعني أنه لا يجوز عنده بيع المريض من الوارث بمثل قيمة المبيع بناء على تعلق حق الغير بعينه فكيف يجوز بيعه منه بالمحاباة ، وقد سلك هاهنا أيضا مسلك الدلالة فلا محذور في ترك الواو من حيث المعنى على تقدير أن يجعل قوله المذكور متعلقا بحكم قوله المتصل به .

وقال تاج الشريعة : قلت ينبغي أن يأتي بالمسألة بلا واو ; لأنه أول مسألة موردة نقضا على مسألة الكتاب دون قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي ; لأنه لبيان الفرق بين ما إذا باعه من المولى بنقصان لم يجز ومع الأجنبي جاز ، وإنما أدخل الواو فيه لئلا يتوهم أنه نقض على بيع المريض من الأجنبي بالمحاباة فأدخل الواو لدفع هذا الوهم ا هـ . أقول : ليس هذا بسديد .

أما أولا فلأن قوله ; لأنه أول مسألة موردة نقضا على مسألة الكتاب دون قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي ; لأنه لبيان الفرق بين ما إذا باعه من المولى بنقصان لم يجز ومع الأجنبي جاز كلام خال عن التحصيل ; لأن مسألة الكتاب هاهنا اثنتان : أولاهما قوله وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز ، وأخراهما قوله وإن باعه بنقصان لم يجز ، فكما أن قوله بخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته لدفع توهم انتقاض المسألة الأولى بمسألة بيع المريض من الوارث بمثل القيمة ، كذلك قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي لدفع توهم انتقاض المسألة الأخرى بمسألة المحاباة المأذون مع الأجنبي ، وكما أن قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي لبيان الفرق بين ما إذا باع المأذون من مولاه شيئا بنقصان وبين ما إذا باعه من الأجنبي بنقصان كذلك قوله وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته لبيان الفرق بين ما إذا باع المأذون من مولاه شيئا بمثل قيمته وبين ما إذا باعه المريض من وارثه بمثل قيمته .

فإن أراد تاج الشريعة بقوله المذكور أن الأولى من المسألتين المزبورتين مسألة الكتاب : أي مختصر القدوري دون الأخرى منهما فليس بصحيح ، إذ كلتاهما مسألتان مذكورتان معا في مختصر القدوري ، وإن أراد بذلك أنهما وإن كانتا معا مسألتي الكتاب إلا أن قوله وبخلاف ما إذا باع المريض إلخ لدفع توهم الانتقاض دون قوله بخلاف ما إذا حابى الأجنبي فإنه لبيان الفرق فليس بصحيح أيضا ; لأن دفع توهم الانتقاض إنما يكون ببيان الفرق ، فقصد أحدهما يستلزم قصد الآخر على أنه لا تأثير لهذا المعنى في إثبات المسألة بلا واو كما لا يخفى على الفطن فلا يثبت مدعاه ، وإن أراد به أن قوله وبخلاف ما إذا باع المريض متعلق بأولى مسألتي الكتاب ، وقوله وبخلاف ما إذا حابى الأجنبي متعلق بأخراهما فلا معنى للواو فيما يتعلق بالأولى ؟ قلنا : قد تقرر في علم الأدب أن الواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها ، فمدخولها لا يقتضي التأخر لا في الوقوع ولا في التعلق ، فلا محذور في إتيان الواو هاهنا أصلا .

وأما ثانيا ; فلأن قوله وإنما أدخل الواو فيه لئلا يتوهم أنه نقض على بيع المريض من الأجنبي بالمحاباة فأدخل الواو لدفع هذا الوهم ليس بتام أيضا ; لأنه إذا كان الواو فيه للعطف كما هو الظاهر المتبادر .

فإن كان المحل صالحا للعطف فما معنى قوله من قبل ينبغي أن يأتي بالمسألة بلا واو ; لأنه أول مسألة موردة نقضا على مسألة الكتاب ، وإن لم يكن صالحا له فكيف يصح إدخال واو العطف فيما لا يصلح للعطف لمجرد دفع توهم شيء ، وإن لم يكن الواو للعطف فمن أين يندفع ذلك التوهم ، وقال صاحب العناية : والظاهر عدم الواو بجعله متعلقا بأول المسألة ، وفي كلامه تعقيد ، وتقدير كلامه هكذا : وإن باع من المولى شيئا بمثل القيمة جاز ; لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين ، بخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده ; لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه : أي عين مال الميت حتى كان لأحدهم الاستخلاص بأداء قيمته .

أما حق الغرماء فيتعلق بالمالية لا غير فافترقا : أي المولى والمريض في جواز البيع من المولى بمثل القيمة دون الوارث ، ثم بعد ذلك يذكر قوله وإن باع بنقصان لم يجز . . . إلخ . ا هـ كلامه . أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن جعل الظاهر هاهنا عدم الواو وبناءه على حمل كلام المصنف على مثل هذا التعقيد القبيح عدول عن سنن الصواب وخروج عن دائرة الإنصاف ، ولعل هذا أقبح الاحتمالات المذكورة في حل هذا المحل . ثم إن في تقريره خللا آخر فإنه قال في تفسير قول المصنف فافترقا : [ ص: 306 ] أي المولى والمريض ، وكان الصواب أن يقول : أي العبد والمريض كما لا يخفى على المتأمل .

والعجب أنه قال بعد ذلك في جواز البيع من المولى بمثل القيمة دون الوارث فيئول المعنى على هذا ، إلى أن يقال في جواز بيع المولى من المولى دون جواز بيع المريض من الوارث ولا يخفى ما فيه




الخدمات العلمية