الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وما نقصت الجارية بالولادة في ضمان الغاصب ، فإن كان في قيمة الولد وفاء به انجبر [ ص: 351 ] النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب ) وقال زفر والشافعي : لا ينجبر النقصان بالولد ; لأن الولد ملكه فلا يصلح جابرا لملكه كما في ولد الظبية ، وكما إذا هلك الولد قبل الرد أو ماتت الأم وبالولد وفاء ، وصار كما إذا جز صوف شاة غيره أو قطع قوائم شجر غيره أو خصى عبد غيره أو علمه الحرفة فأضناه التعليم .

ولنا أن سبب الزيادة والنقصان واحد ، وهو الولادة أو العلوق على ما عرف ، [ ص: 352 ] وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا ، وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت أو قطعت يد المغصوب في يده وأخذ أرشها وأداه مع العبد يحتسب عن نقصان القطع ، وولد الظبية ممنوع ، وكذا إذا ماتت الأم . وتخريج الثانية أن الولادة ليست بسبب لموت الأم ، إذ الولادة لا تفضي إليه غالبا ، وبخلاف ما إذا مات الولد قبل الرد ; لأنه لا بد من رد أصله للبراءة ، فكذا لا بد من رد خلفه ، والخصاء لا يعد زيادة ; لأنه غرض بعض الفسقة ، ولا اتحاد في السبب فيما وراء ذلك من المسائل ; لأن سبب النقصان القطع [ ص: 353 ] والجز ، وسبب الزيادة النمو ، وسبب النقصان التعليم ، والزيادة سببها الفهم . .

التالي السابق


( قوله ولنا أن سبب الزيادة والنقصان واحد وهو الولادة أو العلوق على ما عرف ) ذهبت جماعة من الشراح وهم أصحاب الكفاية والنهاية ومعراج الدراية إلى أن قول المصنف على ما عرف إشارة إلى ما يجيء في مسألة من غصب جارية فزنى بها ، وذهب بعضهم وهو صاحب غاية البيان إلى أنه إشارة إلى ما ذكر في طريقة الخلاف . واختار صاحب العناية الثاني ، وذكر الأول أيضا بطريق النقل حيث قال : يعني في طريقة الخلاف ، وقيل في مسألة من غصب جارية فزنى بها على ما يجيء ا هـ .

أقول : لا مجال عندي للحمل على الأول أصلا ; لأن المراد بالسبب هاهنا سبب الزيادة والنقصان ، وبما يجيء في مسألة من غصب جارية فزنى بها [ ص: 352 ] سبب الموت ، ولا شك أن ما هو سبب لأحدهما لا يصلح أن يكون سببا للآخر أيضا ألبتة ، حتى يصح حوالة معرفة أحدهما على معرفة الآخر ، ألا يرى إلى قول المصنف فيما سيأتي وتخريج الثانية أن الولادة ليست بسبب لموت الأم إذ لا تفضي إليه غالبا ا هـ .

فإن ذاك صريح في أن الولادة لا تكون سببا لموت الأم ، ويعلم منه دلالة أن العلوق أيضا لا يكون سببا له ; لأن إفضاءه إلى الموت أبعد من إفضاء الولادة إليه كما لا يخفى ، مع أنه حكم هاهنا بأن سبب الزيادة والنقصان هو الولادة والعلوق . ثم إن المعروف في الحوالة على ما يجيء أن يقال على ما يجيء أو على ما سيعرف بصيغة المضارع ، وأما أن يقال في مثل ذلك على ما عرف فلم يعرف قط ، فالوجه هو الحمل على ما عرف في طريقة الخلاف لا غير ( قوله وعند ذلك لا يعد نقصانا فلا يوجب ضمانا ) ; لأن السبب الواحد لما أثر في الزيادة والنقصان كانت الزيادة خلفا عن النقصان ، كالبيع لما أزال المبيع عن ملك البائع دخل الثمن في ملكه فكان الثمن خلفا عن مالية المبيع لاتحاد السبب ، حتى إن الشاهدين إذا شهدا على رجل ببيع شيء بمثل قيمته فقضى القاضي به ثم رجعا لم يضمنا شيئا ، وهذا ; لأن الفوات إلى خلف كلا فوات ، كذا في الشروح .

واعترض بأنه لم يخرج جواب للخصم عن أصل دليله ، وهو أن الولد ملك المولى فلا يصلح أن يكون جابرا لنقصان وقع في ملكه بل هو على حاله . وأجيب بأن المصنف أشار إلى جوابه بقوله لا يعد نقصانا ، فإنه إذا لم يعد نقصانا لم يحتج إلى جابر ، فإطلاق الجابر عليه توسع ، هذا زبدة ما في النهاية والعناية . أقول : الجواب منظور فيه ، فإن النقصان أمر محقق لا مجال لإنكار وقوعه ، إذ وضع مسألتنا فيما إذا نقصت الجارية بالولادة ، ولا يرى وجه لأن لا يعد ذلك النقصان المحقق نقصانا سوى انجبار ذلك النقصان بالزيادة التي هي الولد ، كما يدل عليه كلام الشراح قاطبة في شرح قول المصنف وعند ذلك لا يعد نقصانا كما مر ، ويدل عليه قوله في أصل المسألة ( فإن كان في قيمة الولد وفاء به جبر النقصان بالولد وسقط ضمانه عن الغاصب ) ، ولو كان إطلاق الجابر عليه توسعا ولم يوجد الجبر حقيقة لم يظهر وجه لأن يعد نقصان المغصوب الواقع في يد الغاصب نقصانا موجبا للضمان في سائر المواضع ، وأن لا يعد نقصانه الواقع في يد الغاصب فيما نحن فيه نقصانا موجبا للضمان عندنا بل يلزم أن يكون ذلك تحكما بحتا ، وحاشا لأئمتنا من ذلك فليتأمل .

( قوله وصار كما إذا غصب جارية سمينة فهزلت ثم سمنت أو سقطت ثنيتها ثم نبتت ) أقول : لقائل أن يقول : لا اتحاد [ ص: 353 ] في السبب في هاتين الصورتين ، إذ لا شك أن سبب النقصان وهو الهزال في الصورة الأولى وسقوط الثنية في الصورة الثانية يغاير سبب الزيادة وهي السمن في الأولى ونبت الثنية في الثانية . وقد رد المصنف فيما بعد قياس الخصم على نحو جز صوف شاة وقطع قوائم الشجر بعدم الاتحاد في السبب في المقيس عليه فكيف تشبث هاهنا بالقياس على تينك الصورتين مع عدم الاتحاد في السبب فيها أيضا . ثم أقول في الجواب : إن الفرق باتحاد السبب وعدم اتحاده إنما يؤثر في قدح القياس في عدم سقوط الضمان كما هو مدعى الخصم ، إذ لا يلزم من عدم سقوطه عند عدم اتحاد السبب عدم سقوطه عند اتحاده ، إذ يمكن عند اتحاده أن لا يعد النقصان نقصانا كما ذكروه ، بخلاف عدم اتحاده ، إذ لا وجه عنده أصلا لئلا يعد النقصان نقصانا ، ولا يقدح ذلك الفرق في القياس في سقوط الضمان كما هو مدعانا ; لأنه إذا سقط الضمان عند عدم اتحاد السبب مع عدم جواز أن لا يعد النقصان هناك نقصانا فلأن يسقط الضمان عند اتحاد السبب مع جواز أن لا يعد النقصان هنا نقصانا أولى كما لا يخفى فتدبر ، فإنه وجه لطيف في الفرق بين القياسين ولم أسبق إلى كشفه وبيانه . وقال بعض الفضلاء : والفرق أن الثنية لا قيمة لها بخلاف القوائم والصوف ا هـ . أقول : ليس هذا بشيء ; لأن الثنية وإن لم يكن لها قيمة إلا أن سقوطها يورث نقصانا للجارية بلا ريب ، والكلام في نقصان الجارية المغصوبة فلا يفيد ذلك الفرق شيئا فيما نحن فيه




الخدمات العلمية