الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل الطعام كله فلا أجر له ) وقال الشافعي : له المسمى ; لأن المنفعة عين عنده وبيع العين شائعا جائز ، وصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب [ ص: 116 ] ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له ; لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع ، بخلاف البيع ; لأنه تصرف حكمي ، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا يجب الأجر [ ص: 117 ] ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم ، بخلاف الدار المشتركة ; لأن المعقود عليه هنالك المنافع ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام ، وبخلاف العبد ; لأن المعقود عليه إنما هو ملك نصيب صاحبه وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع .

التالي السابق


( قوله : وصار كما إذا استأجر دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام ) قال صاحب العناية : يعني الطعام المشترك ، وقال بعض الفضلاء : وعندي لا حاجة في إتمام الكلام إلى جعل الطعام [ ص: 116 ] مشتركا ، فإنه لو كان للمستأجر خاصة يتوجه إلزام الشافعي بأن وضع الطعام فعل حسي ، والمستأجر هو النصيب الشائع من الدار ولا يتصور فيه الفعل الحسي انتهى . أقول : ما ذكره في بيان أنه لا حاجة في إتمام الكلام إلى جعل الطعام مشتركا كلام خال عن التحصيل ; لأن لفظ الإلزام في قوله يتوجه إلزام الشافعي إما أن يكون مضافا إلى مفعوله أو إلى فاعله ، وعلى الوجهين لا يتم ما ذكره .

أما على الأول فلأن هذه المسألة المستشهد بها من قبل الشافعي ، وهي جواز استئجار الدار المشتركة بين المستأجر وغيره لوضع الطعام مما لا مخالفة فيه بيننا وبين الشافعي ، بل هي مجمع عليها ، ولهذا ذكرت في دليله بطريق الاستشهاد علينا فكيف يتوجه إلزامنا الشافعي بما يقتضي خلاف ما تقرر عندنا ، وهلا يصير ذلك إلزاما علينا أيضا . وأما على الثاني فلأن المعقود عليه في تلك المسألة منافع الدار دون العمل ، وتسليم منافع الدار يتحقق بدون وضع الطعام فلا ضير هناك في أن لا يكون النصيب الشائع محلا للفعل الحسي ، بخلاف ما نحن فيه ، فإن المعقود عليه هنا العمل الذي هو الفعل الحسي ، وهو لا يتصور في الشائع فلم يتصور الإلزام علينا من الشافعي أصلا .

ثم أقول : الظاهر عندي أيضا أنه لا حاجة هاهنا إلى تقييد الطعام بكونه مشتركا ولهذا لم يقيده بذلك سائر الشراح قط ، لكن لا لما ذكره ذلك القائل ، بل ; لأن تمشية استشهاد الشافعي ظاهرا بالمسألة المذكورة لا يتوقف على تقييد الطعام بذلك بل يحصل بمجرد اشتراك الدار بين المستأجر وغيره كاشتراك الطعام بينهما في المسألة التي نحن فيها ، وكذلك الجواب الذي يأتي من قبلنا عن استشهاد الشافعي بتلك المسألة لا يختص بصورة تقييد الطعام بذلك بل يتم ويجري على الإطلاق يشهد بذلك كله التأمل الصادق . ( قوله : ولنا أنه استأجره لعمل لا وجود له ; لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع ) قال في العناية : إذ الحمل يقع على معين والشائع ليس بمعين .

وقال : فإن قيل : إذا حمل الكل فقد حمل البعض لا محالة فيجب الأجر . أجيب بأن حمل الكل حمل معين ، وهو ليس بمعقود عليه انتهى . أقول : في الجواب نظر ، وهو أن عدم كون حمل الكل معقودا عليه لا يجدي شيئا في دفع السؤال ; لأن حاصل السؤال أن حمل الطعام واقع على معين قطعا فكان موجودا ، وحمل الكل لا يتصور بدون حمل كل جزء منه فقد استلزم وجود حمل الكل وجود حمل كل جزء منه لا محالة ، ومن جملة الأجزاء نصيب المستأجر فلا بد أن يجب الأجر لحمل ذلك الجزء الذي هو المعقود عليه ، ولا شك أن عدم كون الكل معقودا عليه لا يفيد شيئا في دفع ذلك ، وإنما يكون مفيدا لو كان المقصود من السؤال وجوب الأجر بحمل الكل وليس فليس [ ص: 117 ]

( قوله : ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريكه فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم ) قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : لا يخلو من أنه عامل لنفسه فقط أو عامل لنفسه ولغيره ، والأول ممنوع فإنه شريك ، والثاني حق لكن عدم استحقاقه الأجر على فعله لنفسه لا يستلزم عدمه بالنسبة إلى ما وقع لغيره .

والجواب أنه عامل لنفسه فقط ; لأن عمله لنفسه أصل ، وموافق للقياس ، وعمله لغيره ليس بأصل بل بناء على أمر مخالف للقياس في الحاجة ، وهي تندفع بجعله عاملا لنفسه لحصول مقصود المستأجر فاعتبر جهة كونه عاملا لنفسه فقط فلم يستحق الأجر . انتهى كلامه . أقول : في الجواب شيء ، وهو أن قوله ، وهي تندفع بجعله عاملا لنفسه لحصول مقصود المستأجر ليس بتام ; لأنه إنما تندفع بجعله عاملا لنفسه حاجة المستأجر دون حاجة الأجير ، فإن له حاجة إلى الأجر كما أن للمستأجر حاجة إلى المنفعة ، وعلى تقدير جعله عاملا لنفسه فقط لا تقضى حاجته ، بل إنما تقضى حاجة المستأجر فقط ، والظاهر أن عقد الإجارة لم يشرع لحاجة المستأجر فقط ، بل إنما شرع لحاجة كل واحد من المتعاقدين ، وإذا لم يجب للأجير العامل فيما نحن فيه أجر لم تندفع الحاجة التي شرع عقد الإجارة لها فلم يتم الجواب .

وزيف بعض الفضلاء قوله : وهي تندفع بجعله عاملا لنفسه لحصول مقصود المستأجر بوجه آخر حيث قال : كيف يحصل مقصوده والأجير إذا علم أنه لا يعطي له الأجر لا يحمل نصيب المستأجر بل يقاسم ويحمل نصيب نفسه انتهى . أقول : ليس هذا بشيء ، إذ لا يذهب عليك أن وضع مسألتنا فيما إذا حمل الكل ، ولا شك في حصول مقصود المستأجر فيه ، واحتمال أن لا يحصل مقصوده في صورة عدم حمل الكل لا يقدح في الكلام المبتنى على وضع المسألة كما لا يخفى ( قوله : وبخلاف العبد ; لأن المعقود عليه إنما هو ملك نصيب صاحبه ، وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع ) هذا جواب عن قياس الخصم على استئجار العبد المشترك لكن في ظاهره خفاء ; لأن عقد الإجارة تمليك المنافع بعوض على ما مر في صدر الكتاب ، ونصيب صاحبه إنما هو في عين العبد [ ص: 118 ] لا في منافعه ; لأن المنافع مما لا تقبل الشركة على ما نصوا عليه فكيف يكون المعقود عليه في استئجار العبد المشترك هو ملك نصيب صاحبه ، وإنما يتصور أن يكون المعقود عليه ذلك في البيع الذي هو تمليك العين بعوض ، وعن هذا ارتكب الشراح تقدير شيء في حل هذا المحل ، فقال صاحب النهاية ; لأن المعقود عليه إنما هو ملك نصيب صاحبه : أي منفعة ملك نصيب صاحبه ، فلما كان ذلك منفعة لا فعلا كالحمل صح إيقاعه في الشائع كما قلنا في الدار المشتركة إن العقد يرد على المنفعة . انتهى .

أقول : فيه نظر ; لأن قياس الخصم إنما هو على استئجار العبد المشترك ليخيط له الثياب كما صرح به في الكتاب لا الانتفاع به مطلقا ، فيكون العبد المشترك في تلك الصورة أجيرا مشتركا ، ويكون المعقود عليه هو عمل الخياطة لا المنفعة مطلقا ، وإنما يكون المعقود عليه هو المنفعة مطلقا لو كان العبد أجير وحد وذلك ليس بمقيس عليه ، ولا شك أن عمل الخياطة فعل حسي كالحمل فينبغي أن لا يصح إيقاعه في الشائع كالحمل فلم يتم الفرق .

وقال صاحب العناية : وقوله وبخلاف العبد جواب عن قياس الخصم على استئجار العبد المشترك ، ووجهه أن المستأجر للعبد المشترك يملك منفعة نصيب صاحبه ، والملك أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع كما في البيع بخلاف الحمل ; لأنه فعل حسي انتهى . أقول : فيه أيضا نظر ; لأنه إن كان مدار فرقه على أن المعقود عليه في العبد المشترك هو المنفعة ، وفيما نحن فيه هو الفعل الحسي كما يومئ إليه إقحام المنفعة في قوله يملك منفعة نصيب صاحبه يتجه عليه ما أوردناه على تقرير صاحب النهاية من أن قياس الخصم على استئجار العبد المشترك على فعل حسي هو عمل الخياطة لا على استئجاره على المنفعة فلا يتم الفرق ، وإن كان مدار فرقه على تحقق ملك المنفعة في استئجار العبد المشترك ، وكون الملك مما يمكن إيقاعه في الشائع كما يشعر به قوله : يملك منفعة نصيب صاحبه بتقديم الملك على المنفعة على عكس ما في النهاية .

وقوله والملك أمر حكمي يمكن إيقاعه في الشائع كما في البيع يرد عليه أن ملك المنفعة يتحقق فيما نحن فيه أيضا ; لأن عقد الإجارة تمليك المنافع بعوض ، ففي كل فرد من أفراد الإجارة بملك المستأجر ألبتة المنفعة التي وقع عليها العقد فينبغي أن يجوز ما نحن فيه أيضا باعتبار [ ص: 119 ] إيقاع ملك المنفعة في المشاع . لا يقال : لم يتحقق ملك المنفعة فيما نحن فيه لبطلان الإجارة فيه ، بخلاف المقيس عليه ; لأنا نقول : بطلان الإجارة فيما نحن فيه أول المسألة وقد خالف فيها الشافعي .

واستدل على جواز الإجارة فيه أيضا بوجوه : منها قياسه على استئجار العبد المشترك للخياطة ، فبناء الفرق بينهما على بطلان الإجارة فيما نحن فيه مصادرة على المطلوب . وقال صاحب غاية البيان : قوله : وبخلاف العبد جواب عما قاس عليه فيما إذا استأجر عبدا مشتركا ليخيط له الثياب : يعني أن المستأجر للعبد المشترك يملك منفعة نصيب صاحبه ، والملك أمر حكمي فيمكن إثباته حكما ، وإن لم يكن حسا ، بخلاف المتنازع فيه ; لأنه أمر حسي لا يتصور في الشائع لعدم الامتياز حسا ا هـ .

أقول : مضمونه موافق لما في العناية ففيه ما فيه فتأمل في التوجيه .




الخدمات العلمية