الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور ، إلا أن يسمي جملة شهور معلومة ) ; لأن الأصل أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم فكان الشهر الواحد معلوما [ ص: 94 ] فصح العقد فيه ، وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح ( ولو سمى جملة شهور معلومة جاز ) ; لأن المدة صارت معلومة . قال ( وإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه ولم يكن للمؤجر أن يخرجه إلى أن ينقضي ، وكذلك كل شهر سكن في أوله ساعة ) ; لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر الثاني ، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو القياس ، وقد مال إليه بعض المشايخ ، وظاهر الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها ; لأن في اعتبار الأول بعض الحرج .

التالي السابق


( قوله : ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في شهر واحد فاسد في بقية الشهور ) قال تاج الشريعة : فإن قلت : لو كان فاسدا لجاز الفسخ في الحال : قلت : الإجارة من العقود المضافة ، وانعقاد الإجارة في أول الشهر فقبل الانعقاد كيف تفسخ انتهى ، وتبعه الشارح العيني في السؤال والجواب . أقول : في الجواب نظر ; لأن انعقاد الإجارة وإن كان في أول الشهر إلا أن عقدها قد تحقق في الحال بالإيجاب والقبول فلم لا يكفي في جواز الفسخ كون الفسخ بعد تحقق العقد ، وقد مر [ ص: 94 ] في أول كتاب الإجارة أن الإجارة مطلقا تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة ، فقالوا في توجيه تراخي الانعقاد إلى حدوث المنافع ساعة فساعة مع وجود علته في الحال ، وهي العقد أن الانعقاد حكم الشرع ، والعلل الشرعية تغاير العلل العقلية في جواز انفكاكها من معلولاتها ، فلو لم يجز الفسخ قبل أوان الانعقاد ، ولم يكف كونه بعد تحقق العقد الذي هو سبب الانعقاد لما جاز فسخ الإجارة الصحيحة أيضا بعذر أو عيب قبل استيفاء المنافع بتمامها ، فإنه إذا لم يحدث جزء من المنافع لم يتحقق الانعقاد في حقه فيلزم الفسخ قبل الانعقاد بالنظر إليه ، مع أنه لا شك في جواز ذلك كما صرحوا به قاطبة .

وسيجيء في الكتاب ( قوله : وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد الصحيح ) قال في المحيط البرهاني : وفي الأصل إذا استأجر الرجل من آخر دارا كل شهر بعشرة دراهم فإن أبا حنيفة قال هذا جائز ولكل واحد منهما أن ينقض الإجارة في رأس الشهر ، فإن سكن يوما أو يومين لزمه الإجارة في الشهر الثاني . واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة . بعضهم قال : أراد بقوله جائز أن الإجارة في الشهر الأول جائزة ، فأما فيما عدا ذلك من الشهور فالإجارة فاسدة لجهالة المدة إلا أنه إذا جاء الشهر الثاني ، ولم يفسخ كل واحد منهما الإجارة في رأس الشهر جازت الإجارة في الشهر الثاني ; لأن الشهر الثاني صار كالشهر الأول . وبعضهم قال لا ، بل الإجارة جائزة في الشهر الثاني والثالث كما جازت في الشهر الأول ، وإطلاق محمد رحمه الله في الكتاب يدل عليه وإنما جازت الإجارة فيما وراء الشهر الأول وإن كانت المدة مجهولة لتعامل الناس من غير نكير منكر ، وإنما يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس كل شهر ، وإن كانت الإجارة جائزة فيما زاد على الشهر الأول لنوع ضرورة بيانها أن موضوع الإجارة أن لا تزيل الرقبة عن ملك المؤجر ولا تجعلها ملكا للمستأجر ، ومتى لم يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر لزال رقبة المستأجر [ ص: 95 ] عن ملك المؤجر معنى ; لأنه لا يملك سكناها ولا بيعها ولا هبتها أبد الدهر ; لأنه لا نهاية لجملة الشهور وهذا لا يجوز فلهذه الضرورة كان لكل واحد منهما الخيار بين الفسخ والمضي في رأس كل شهر ، وإن كانت الإجارة جارية في الشهر وفيما زاد على الشهر .

وقال : إلا أن المشايخ بعد هذا اختلفوا في كيفية إمكان الفسخ لكل منهما رأس كل شهر ، وإنما اختلفوا ; لأن رأس الشهر في الحقيقة عبارة عن الساعة التي يهل فيها الهلال فكلما أهل الهلال مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ بعد ذلك المضي وقت الخيار ، وقبل ذلك لا يمكنه الفسخ ; لأنه لم يجئ وقته .

والصحيح في هذا أحد الطرق الثلاثة : إما أن يقول الذي يريد الفسخ قبل مضي المدة فسخت الإجارة فيتوقف هذا الفسخ إلى انقضاء الشهر ، وإذا انقضى الشهر وأهل الهلال عمل الفسخ حينئذ عمله ونفذ ; لأنه لم يجد نفاذا في وقته ، والفسخ إذا لم يجد نفاذا في وقته يتوقف إلى وقت نفاذه ، وبه كان يقول أبو نصر محمد بن سلام البلخي ، ونظير هذا ما قاله محمد رحمه الله في البيوع : اشترى عبدا على أنه بالخيار فحم العبد وفسخ المشتري العقد بحكم الخيار لم ينفذ هذا الفسخ ، بل يتوقف إلى أن تزول الحمى في مدة الخيار . وقال في المضاربة : رب المال إذا فسخ المضاربة وقد صار مال المضاربة عروضا لم ينفذ الفسخ للحال بل يتوقف إلى أن يصير مال المضاربة دراهم أو دنانير فينفذ الفسخ حينئذ ، كذا هاهنا ، أو يقول : الذي يريد الفسخ في خلال الشهر فسخت العقد رأس الشهر فينفسخ العقد إذا أهل الهلال ، ويكون هذا فسخا مضافا إلى رأس الشهر ، وعقد الإجارة يصح مضافا ، فكذا فسخه يصح مضافا أو يفسخ الذي يريد الفسخ في الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها ، وهذا القائل يقول : لم يرد محمد بقوله لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة ، وهو الساعة التي يهل فيها الهلال ، وإنما أراد به رأس الشهر من حيث العرف والعادة وهي الليلة التي يهل فيها الهلال أو يومها وهكذا قال محمد رحمه الله في كتاب الأيمان : إذا حلف الرجل ليقضين حق فلان رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها الهلال أو في يومها لم يحنث استحسانا ، إلى هنا لفظ المحيط وهكذا ذكر في الذخيرة أيضا ونقله صاحب النهاية عن الذخيرة بنوع إجمال منه .

أقول : لقائل أن يقول : الطريق الأول والثاني من الطرق الثلاثة المذكورة مما لا يساعده عبارة الأئمة في وضع هذه المسألة ، فإن محمدا رحمه الله قال في الأصل : ولكل واحد منهما أن ينقض الإجارة في رأس الشهر . والإمام قاضي خان قال في فتاواه : رجل آجر داره أو حانوته كل شهر بدرهم كان لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة عند تمام الشهر ، والمصنف قال هاهنا ، وإذا تم كان لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة ، ولا يخفى أن مقتضى هذه العبارات أن يكون ثبوت خيار الفسخ لكل واحد منهما عند تمام الشهر الأول ودخول رأس الشهر الثاني لا قبل ذلك ، ودلالة ذينك الطريقين على أن يثبت لهما خيار الفسخ في خلال الشهر الأول قبل تمامه . وأقول : يمكن أن يقال نفاذ الفسخ وتأثيره في ذينك الطريقين أيضا عند أن ينقضي الشهر الأول ، وأهل هلال الشهر الثاني ، وإن كان التكلم بالفسخ فيهما في خلال الشهر الأول فيجوز أن تكون تلك العبارات في وضع هذه المسألة بناء على أن ظهور أثر ثبوت الخيار لكل واحد منهما عند تمام الشهر الأول ودخول رأس الشهر الثاني . هذا غاية ما يمكن في توجيه الطريقين المزبورين ، وإن كان ينبو عنه ظاهر اللفظ . ثم إن الإمام الزيلعي رد على من قال من المشايخ في تخريج هذه المسألة : إن العقد جائز في الشهر الثاني والثالث أيضا لتعامل الناس من غير نكير منكر ، إلا أن لكل واحد منهما خيار الفسخ رأس كل شهر لنوع ضرورة حيث قال في شرح الكنز : ولا معنى لقول من قال من المشايخ إن العقد صحيح في الشهر الثاني والثالث أيضا لتعامل الناس ; لأن التعامل إذا كان مخالفا للدليل لا يعتبر . انتهى .

أقول : بل لا معنى لما قاله الزيلعي ; لأن التعامل إذا وقع من غير نكير منكر فقد حل محل الإجماع ، وفيما نحن فيه وقع كذلك على ما صرح به من قال من المشايخ بجواز العقد في كل الشهور ، والإجماع دليل قطعي والدليل الذي خالفه التعامل هاهنا إنما هو كون جهالة المدة مفسدة للعقد ، وهو موجب القياس ، والقياس دليل ظني لا يصلح لمعارضة الدليل القطعي أصلا ، فضلا عن أن لا يعتبر القطعي في مقابلته ، على أنه قد تقرر عندهم أن الجهالة المفسدة للعقد إنما هي الجهالة المفضية إلى النزاع دون مطلق الجهالة كما مر في البيوع ، وجهالة المدة فيما [ ص: 96 ] نحن فيه ليست بمفضية إلى النزاع ، إذ لكل واحد منهما نقض العقد في رأس كل شهر فكيف يقع النزاع .




الخدمات العلمية