الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وفي الجامع الصغير : أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما ) لاحتمال أن يكون لغيرهما ثم قيل هو قول أبي حنيفة [ ص: 433 ] وقيل قول الكل ، وهو الأصح لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه ، وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك فامتنع الجواز قال ( وإذا حضر وارثان وأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة والدار في أيديهم ومعهم وارث غائب قسمها القاضي بطلب الحاضرين وينصب وكيلا يقبض نصيب الغائب ، وكذا لو كان مكان الغائب صبي يقسم وينصب وصيا يقبض نصيبه ) لأن فيه نظرا للغائب والصغير ، ولا بد من إقامة البينة في هذه الصورة عنده أيضا خلافا لهما كما ذكرنا من قبل ( ولو كانوا مشترين لم يقسم مع غيبة أحدهم ) والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب فيما اشتراه المورث أو باع ويصير مغرورا بشراء المورث فانتصب أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه فصارت القسمة قضاء بحضرة المتخاصمين .

أما الملك الثابت بالشراء ملك مبتدأ ولهذا لا يرد بالعيب على بائع بائعه [ ص: 434 ] فلا يصلح الحاضر خصما عن الغائب فوضح الفرق ( وإن كان العقار في يد الوارث الغائب أو شيء منه لم يقسم ، وكذا إذا كان في يد مودعه ، وكذا إذا كان في يد الصغير ) لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما ، وأمين الخصم ليس بخصم عنه فيما يستحق عليه ، والقضاء من غير الخصم لا يجوز .

ولا فرق في هذا الفصل بين إقامة البينة وعدمها هو الصحيح كما أطلق في الكتاب قال ( وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة ) لأنه لا بد من حضور خصمين ، لأن الواحد لا يصلح مخاصما ومخاصما ، وكذا مقاسما ومقاسما ، بخلاف ما إذا كان الحاضر اثنين على ما بينا ( ولو كان الحاضر كبيرا وصغيرا نصب القاضي عن الصغير وصيا وقسم إذا أقيمت البينة ، وكذا إذا حضر وارث كبير وموصى له بالثلث فيها وطلبا القسمة وأقاما البينة على الميراث والوصية يقسمه ) لاجتماع الخصمين الكبير عن الميت والموصى له عن نفسه ، وكذا الوصي عن الصبي كأنه حضر بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه

التالي السابق


( قوله وفي الجامع الصغير : أرض ادعاها رجلان وأقاما البينة أنها في أيديهما وأرادا القسمة لم يقسمها حتى يقيما البينة أنها لهما لاحتمال أن تكون لغيرهما ) قال في العناية : أعاد لفظ الجامع الصغير لأنه يفيد أنه لا يقسم حتى يقيما البينة على الملك لاحتمال أن يكون ما في أيديهما ملكا لغيرهما ، فإنهما لما لم يذكرا السبب احتمل أن يكون ميراثا فيكون ملكا للغير ، وأن يكون مشترى فيكون ملكا لهما لأن الأصل أن تكون الأملاك في يد مالكها فلا يقسم احتياطا انتهى أقول : لا يخفى على ذي فطنة سليمة أن قوله لأن الأصل أن تكون الأملاك في يد مالكها غير مفيد هاهنا ، بل هو مخل بالمقام لأن ذاك الأصل : أعني كون الأملاك في يد مالكها يرجح كون ما في أيديهما ملكا لهما فينبغي أن يقسم بدون إقامة البينة ، مع أن جواب مسألة الجامع الصغير أن لا يقسم بدونها كما ترى ، فالصواب أن يترك تلك المقدمة في تعليل مسألة الجامع الصغير ، وإنما يحتاج إليها في بيان وجه رواية كتاب القسمة كما مرت من قبل واعترض بعض الفضلاء على قول صاحب العناية فإنهما لما لم يذكرا السبب احتمل أن يكون ميراثا إلى آخره حيث قال : فيه بحث ، بل المحتمل هنا أن لا يكون ملكا لهما لا إرثا ولا شراء ، كيف ولو كان ملكا لهما لتعرضا له ، وبه يظهر وجه التوفيق بين الروايتين فإن في الأولى ادعوا الملك انتهى .

أقول : يمكن دفع ذلك بأنه إن أراد أن المحتمل هنا أن لا يكون ملكا لهما أصلا لا غير فهو ممنوع وقوله كيف ولو كان ملكا لهما لتعرضا له غير تام ، فإن عدم التعرض لشيء لا ينافي احتماله في الواقع ، وإنما ينافي تقرره وتعينه كيف ولو لم يكن للملك لهما احتمال أصلا لما جاز استماع البينة له ، وإن أراد أن ذلك أيضا محتمل هنا فهو مسلم لكن لا يضر ذلك بصحة التعليل الذي ذكره صاحب العناية لأن مجرد احتمال أن يكون ميراثا وأن يكون مشترى يكفي في أن لا يقسم بدون البينة احتياطا ثم إن هذا كله على تقدير استدراك قول صاحب العناية لأن الأصل أن تكون الأملاك في يد مالكها لإخلاله بالفرق بين الروايتين كما نبهنا عليه آنفا . وأما على تقدير اعتباره في تعليل رواية الجامع الصغير كما فعله صاحب العناية فيسقط جدا ما ذكره ذلك القائل من احتمال أن لا يكون ملكا لهما أصلا لدلالة ثبوت أيديهما على أن ما فيها ملك لهما ، ويكون سبب عدم تعرضهما لكونه ملكا لهما هو الاعتماد على دلالة ذلك [ ص: 433 ] عليه فتدبر

( قوله وقيل قول الكل وهو الأصح ، لأن قسمة الحفظ في العقار غير محتاج إليه وقسمة الملك تفتقر إلى قيامه ولا ملك فامتنع الجواز ) يعني أن القسمة نوعان : قسمة لحق الملك لتكميل المنفعة ، وقسمة لحق اليد لأجل الحفظ والصيانة ، والثاني في العقار غير محتاج إليه فتعين قسمة الملك وقسمة الملك تفتقر إلى قيام الملك ولا ملك بدون البينة فامتنع الجواز ، كذا في العناية .

أقول : لقائل أن يقول : إن هذا التقرير يقتضي أن لا تجوز القسمة بدون البينة على قول الكل فيما إذا ادعوا الشراء أيضا في العقار مع أنه قد سبق أنه تجوز القسمة فيه بدون البينة بالاتفاق .

ويقتضي أيضا أن لا تجوز القسمة بدون البينة عند أبي يوسف ومحمد أيضا فيما إذا ادعوا الإرث في العقار ومع أنه قد سبق أيضا أنهما يقولان بجوازها فيه بمجرد اعترافهم ثم أقول : يجوز أن لا يكون مراد المصنف رحمه الله بقوله ولا ملك ما حمل عليه صاحب العناية من أنه لا ملك بدون البينة لانتقاضه بصورة ادعائهم الشراء على قول الكل ، وبصورة ادعائهم الإرث أيضا على قولهما كما نبهت عليه آنفا ، بل يحتمل أن يكون مراده بذلك أنه لا ملك في دعواهما : أي لم يدعيا الملك ولم يتعرضا له أصلا في رواية الجامع الصغير ، بل إنما ادعيا أنها في أيديهما وأقاما البينة عليه ، بخلاف ما مر من رواية كتاب القسمة فإنهم ادعوا هناك صريح الملك فافترقتا فحينئذ لا انتقاض بالصورتين المذكورتين لأنهم ادعوا فيهما سبب الملك من الإرث أو الشراء ، ويؤيد هذا ما ذكره تاج الشريعة حيث قال : قيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع فموضوع كتاب القسمة فيما إذا ادعيا الملك ابتداء وموضوع الجامع الصغير فيما إذا ادعيا اليد ابتداء ، [ ص: 434 ] وبيانه أنهما لما ادعيا الملك ابتداء واليد ثابتة ومن في يده شيء يقبل قوله أنه ملكه ما لم ينازعه غيره ، إذ الأصل أن الأملاك في يد الملاك فيعتبر هذا الظاهر وإن احتمل أن يكون ملك الغير لأنه احتمال بلا دليل فيقسم بينهما بناء على الظاهر ، أما إذا ادعيا اليد وأعرضا عن ذكر الملك مع حاجتهما إلى بيانه فلا يقبل قولهما لأنهما طلبا القسمة من القاضي والقسمة في العقار لا تكون إلا بالملك ، فلما سكتوا عنه دل على أن الملك ليس لهما فتأكد ذلك الاحتمال السابق فلا يقبل قولهما بعد ذلك إلا بإقامة البينة ليزول هذا الاحتمال ، وهذا معنى قوله لاحتمال أن يكون لغيرهما ، إلى هنا كلامه فتبصر

( قوله لأن القسمة قضاء على الغائب والصغير باستحقاق يدهما من غير خصم حاضر عنهما ) يعني أن في هذه القسمة قضاء على الغائب أو الصغير بإخراج شيء مما كان في يده عن يده من غير خصم حاضر عنهما ، كذا التقرير في الكافي والمبسوط أقول : في هذا التعليل شيء ، وهو أنه إنما يتم إذا كان العقار كله في يد الغائب أو الصغير ، أو كان منه شيء زائد قدره على حصة الغائب أو الصغير من الميراث في يد أحدهما ، وأما فيما إذا كان في يد أحدهما من العقار شيء يساوي قدره حصة ذلك من الميراث أو يصير أقل منها فلا يتمشى فيها ذلك التعليل ، إذ لا يلزم فيه القضاء على الغائب أو الصغير بإخراج شيء مما كان في يده عن يده بل يلزم إبقاء ما كان في يده على يده في صورة التساوي وزيادة شيء عليه مما في يد الحاضرين في صورة النقصان ، ويحتمل أن يكون هذا هو السر في عدم وقوع ذكر أو شيء منه في وضع المسألة في مختصر القدوري ، فإن هذا القيد في وضعها من زيادة صاحب الهداية كما نص عليه في غاية البيان فتأمل




الخدمات العلمية