الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وإن أكرهه على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل وقع ما أكره عليه عندنا ) خلافا للشافعي وقد مر في الطلاق . قال ( ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد ) لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف إليه [ ص: 246 ] فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا ، ولا سعاية على العبد لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير ولم يوجد واحد منهما ، [ ص: 247 ] ولا يرجع المكره على العبد بالضمان لأنه مؤاخذ بإتلافه . قال ( ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول ، وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما لزمه من المتعة ) لأن ما عليه كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها ، وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا الوجه فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف . بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر بالدخول لا بالطلاق .

التالي السابق


( قوله ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف إليه ) قال في العناية : ومنع صلاحيته لذلك لأن الإتلاف يثبت في ضمن التلفظ بهذا اللفظ وهو لا يصلح آلة له في حق التلفظ فكذا في حق ما يثبت في ضمنه .

وأجيب بأن الإعتاق إتلاف وهو يصلح آلة له فيه ، والتلفظ قد ينفك عنه في الجملة كما في إعتاق الصبي فيصح أن يكون آلة بالنسبة إلى الإتلاف دون التلفظ ا هـ . أقول : فيه نظر ، لأن الانفكاك في إعتاق الصبي إنما هو من جهة ثبوت التلفظ بدون ثبوت الإعتاق ، وذلك لا ينافي ثبوت الإعتاق في ضمن التلفظ [ ص: 246 ] ألبتة ، وإنما ينافيه عكس ذلك وهو أن يثبت الإعتاق بدون التلفظ ، وهذا غير متحقق في صورة إعتاق الصبي فلم يتم التمثيل ولا التقريب .

وكأن بعض الفضلاء تنبه لهذا حيث قال : فيه تأمل ، فإن الذي يهمنا ثبوت الإعتاق لا في ضمن التكلم كما إذا ورث القريب ا هـ . أقول : لكن فيه أيضا خلل ، فإن الثابت في صورة إن ورث القريب إنما هو العتق دون الإعتاق كما صرحوا به قاطبة ، وقد مر في كتاب الولاء مفصلا ، والكلام هاهنا في الإعتاق دون مجرد العتق كما لا يخفى ، فلا يتم التمثيل بتلك الصورة أيضا ولا التقريب .

ثم أقول : لا فائدة لحديث الانفكاك أصلا في الجواب هاهنا فإن كون ثبوت الإتلاف فيما نحن فيه في ضمن التلفظ أمر مقرر لا يقبل الإنكار ، فيكون مدار الورود السؤال المذكور لا محالة ، ولا يجدي شيئا في دفعه انفكاك الإتلاف عن التلفظ في صورة أخرى .

فالحق عندي في الجواب أن يقال : لا يلزم من عدم صلاحية المكره للآلية في حق التلفظ عدم صلاحيته لها في حق ما ثبت في ضمنه وهو الإتلاف ، لأن عدم صلاحيته لها في حق التلفظ لعلة امتناع التكلم بلسان الغير ، وهي غير متحققة في حق ما ثبت في ضمنه من الإتلاف ، فإن المكره يمكنه أن يأخذ المكره ويلقيه على المال فيتلفه كما صرحوا به فيما مر ( قوله فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا ) لأنه ضمان إتلاف فلا يختلف باليسار والإعسار . كذا في الكافي وغيره . فإن قيل : ينبغي أن لا يضمن المكره لأنه أتلف بعوض حصل للمكره وهو الولاء ، والإتلاف بعوض كلا إتلاف .

أجيب بأن الإتلاف بعوض إنما يكون كلا إتلاف إذا كان العوض مالا ، كما لو أكره على أكل طعام الغير فأكل فإنه لا ضمان على المكره لأنه حصل للمكره عوض ، أو كان في حكم المال كما في منافع البضع إذا أتلفها مكرها ، لأن منافعه تعد مالا عند الدخول ، والولاء ليس كذلك لأنه بمنزلة النسب ، ألا ترى أن شاهدي الولاء إذا رجعا لا يضمنان ، كذا في الشروح .

أقول : هذا الجواب يشكل بما لو أكره على شراء ذي رحم منه فعتق عليه فإن المكره لا يرجع هناك بقيمة العبد على المكره بناء على أنه حصل له عوض هو صلة الرحم ، نص عليه في البدائع ، ولا يذهب عليك أن صلة الرحم ليست بمال كالولاء ، أما حقيقة فظاهر ، وأما حكما فلأنه لم يقل به أحد كما قالوا في منافع البضع عند الدخول فتأمل ( قوله ولا سعاية على العبد لأن السعاية إنما تجب للتخريج إلى الحرية أو لتعلق حق الغير ولم يوجد واحد منهما ) بخلاف المريض إذا أعتق [ ص: 247 ] عبده وعليه دين ، لأن السعاية تجب ثمة لحق الغرماء ، وبخلاف الراهن إذا أعتق المرهون ، وهو معسر فإنه تجب السعاية لحق المرتهن ، كذا في الكافي وعامة الشروح .

قال صاحب العناية بدل ذلك : بخلاف ما إذا كان العبد مرهونا فأكره الراهن على إعتاقه فإنه يجب على العبد السعاية لتعلق حق الغير وهو المرتهن به ا هـ .

أقول : لم أر ما ذكره من وجوب السعاية على العبد إذا أكره الراهن على إعتاقه في شيء من كتب الفقه سوى شرح تاج الشريعة لهذا الكتاب فإنه قال فيه هاهنا : ولا يتعلق بالعبد حق الغير أيضا حتى يحتاج إلى السعاية لذلك مثل أن يكون مرهونا فأكره الراهن على إعتاقه وهو معسر فحينئذ تجب على العبد السعاية لتعلق حق المرتهن برقبته . وأما هاهنا فلم يتعلق حق الغير بالعبد فلا يجب عليه شيء ا هـ .

و لعله غلط وقع من تاج الشريعة فاغتر به صاحب العناية ، لأن مجرد تعلق حق الغير بالعبد المعتق لا يوجب السعاية عليه ، بل لا بد من أن لا يقدر معتقه على إيفاء ذلك الحق ولهذا قالوا : إذا أعتق الراهن العبد المرهون وهو معسر تجب السعاية على العبد لحق المرتهن حيث زادوا قيد الإعسار . ولا يخفى أن الراهن فيما إذا أكره على إعتاق عبده المرهون ففعل يقدر على إيفاء حق المرتهن بما ضمنه المكره من قيمة ذلك العبد [ ص: 248 ] فإن له أن يضمنه إياها لما ذكر في الكتاب فكان ينبغي أن لا تجب السعاية على العبد . ثم إن قول صاحب العناية بخلاف ما إذا كان العبد مرهونا فأكره الراهن على إعتاقه إلخ لا يكاد يصح هاهنا لأن تلك الصورة داخلة هاهنا في إطلاق ما نحن فيه من مسألة الكتاب فكيف يصح الحكم بالمخالفة بينها وبين ما نحن فيه ، بخلاف الصورتين المذكورتين في الكافي وعامة الشروح فإنهما مسألتان مغايرتان لما نحن فيه ، فيصح الحكم بالمخالفة بينهما وبين ما نحن فيه ، وكذا قول تاج الشريعة .

وأما هاهنا فلم يتعلق حق الغير بالعبد إلخ ليس بسديد ، فإنه يشعر بالمخالفة أيضا بين تلك الصورة وبين ما نحن فيه ، ومع أنها داخلة في إطلاق ما نحن فيه كما لا يخفى ، وأيضا لو وجب السعاية على العبد في الصورة المزبورة لانتقض بها ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله من [ ص: 249 ] أن السعاية إنما تجب على العبد للتخريج إلى الحرية ، إذ لا تخريج إلى الحرية في تلك الصورة لما ذكروا أن العبد قد خرج إلى الحرية بالإعتاق فلا يمكن تخريجه إليها ثانيا فلزم أن لا يتم قول تاج الشريعة وصاحب العناية وغيرهما في ذيل شرح هذا المحل ، وهذا القدر من التعليل كاف على مذهب أبي حنيفة سالم عن النقض .

وأما على مذهبهما فمنتقض بما إذا أعتق المحجور عليه بالسفه فإنه يعتق ويجب عليه السعاية عندهما وقد أعتق ملكه ولا حق لأحد فيه فيزاد لهما في التعليل وهو غير محجور عليه انتهى تأمل تفهم




الخدمات العلمية