الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للمولى لتبدل الملك ) فإن العبد يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق ، وإليه وقعت الإشارة النبوية في حديث بريرة رضي الله عنهما { هي لها صدقة ولنا هدية } وهذا بخلاف ما إذا أباح للغني والهاشمي ، لأن المباح له يتناوله على ملك المبيح ، ونظيره المشتري شراء فاسدا إذا أباح لغيره لا يطيب له ولو ملكه يطيب ، ولو عجز قبل الأداء إلى المولى فكذلك الجواب ، وهذا عند محمد ظاهر لأن بالعجز يتبدل الملك عنده ، وكذا عند أبي يوسف ، وإن كان بالعجز يتقرر ملك المولى عنده [ ص: 214 ] لأنه لا خبث في نفس الصدقة ، وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا به .

ولا يجوز ذلك للغني من غير حاجة وللهاشمي لزيادة حرمته والأخذ لم يوجد من المولى فصار كابن السبيل إذا وصل إلى وطنه والفقير إذا استغنى وقد بقي في أيديهما ما أخذا من الصدقة فإنه يطيب لهما ، وعلى هذا إذا أعتق المكاتب واستغنى يطيب له ما بقي من [ ص: 215 ] الصدقة في يده .

التالي السابق


( قوله وما أدى المكاتب من الصدقات إلى مولاه ثم عجز فهو طيب للولي لتبدل الملك ) وتبدل الملك بمنزلة تبدل العين في الشريعة ، كذا في الكافي وعامة الشروح . فإن قيل : إن ملك [ ص: 214 ] الرقبة كان للمولى فكيف يتحقق تبدل الملك ؟ قلنا : ملك الرقبة للمولى كان مغلوبا في مقابلة ملك اليد للمكاتب ، حتى كان للمكاتب أن يمنع المولى عن التصرف في ملكه ، ولم يكن للمولى أن يمنع المكاتب عن التصرف في ملكه ، ثم بالعجز ينعكس الأمر ، وليس هذا إلا بتبدل الملك للمولى كذا قال جمهور الشراح . واعتراض صاحب العناية على هذا الجواب حيث قال بعد ذكر السؤال والجواب .

وفيه نظر ، لأنا لا نسلم أن ذلك تبدل ، ولئن كان فلا نسلم أن مثله بمنزلة تبدل العين ا هـ . وقصد الشارح العيني دفع ذلك فقال : قلت أول كلامه منع مجرد ، والثاني دعوى بلا برهان ا هـ .

أقول : ليس هذا بشيء ، فإن المنع المجرد والمنع مع السند كلاهما من دأب المناظرين ، غاية الأمر أن الثاني أقوى من الأول ، فلا يفيد قوله أول كلامه منع مجرد . وأما قوله والثاني دعوى بلا برهان ففاسد ، إذ لا دعوى له في الثاني بل هو أيضا منع محض كما ترى فلا يلزمه البرهان ، والصواب في دفع ذلك أن يقال : أن منع التبدل مكابرة ، إذ لا شك أن الانعكاس يقتضي التبدل بل هو عين التبدل ، وإن منع كون مثل هذا التبدل بمنزلة تبدل العين ساقط ، لأن كونه بمنزلة تبدل العين إنما هو في حكم الشرع دون الحقيقة ، وكونه بمنزلة ذلك في حكم الشرع منصوص عليه من قبل أهل الشرع فلا مجال لمنعه . ثم قال صاحب العناية : ولعل الأولى أن يقال : المولى لم يكن له ملك يد قبل العجز وحصل به فكان تبدلا ا هـ .

ورد عليه الشارح العيني بأنه إن لم يكن له ملك يد فله ملك رقبة . أقول : هذا أيضا كلام لغو ، إذ أن يكون له ملك رقبة قبل العجز لا ينافي تحقق التبدل بالنظر إلى ملك اليد ، وهو كاف في كون ما أدي إلى المكاتب من الصدقات طيبا للمولى كما صرحوا به .

والصواب في الرد عليه هاهنا أن يقال : هذا الذي ذكره في المآل عين الجواب الذي اختاره جمهور الشراح ، وأورد هو النظر عليه مع ما في ذلك الجواب من المزية وهي الإشارة إلى وجه اعتبارهم تبدل ملك اليد دون بقاء ملك الرقبة بأن ملك الرقبة مغلوب في مقابلة ملك اليد ، فكان اعتبار حال الغالب وهي التبدل أولى من اعتبار حال المغلوب وهي البقاء فلا وجه لإيراد النظر على ذلك الجواب ، وذكر هذا من عند نفسه وادعاء أنه أولى من ذلك ( قوله لأنه لا خبث في نفس الصدقة ، وإنما الخبث في فعل الآخذ ، إلى قوله : والأخذ لم يوجد من المولى ) .

[ ص: 215 ] قال بعض الفضلاء : فعلى هذا لو أباح الفقير للغني أو الهاشمي ينبغي أن يطيب لهما عنده إذ لا أخذ منهما كما لا يخفى ا هـ . أقول : إن لم يوجد منهما الأخذ من يد المتصدق فقد وجد منهما الأخذ من يد الفقير حيث تناولا ما كان في يده وملكه فقد تحقق في حقهما هناك سبب الخبث ، إذ لا فرق في إيراث الخبث بين أخذ من واحد وأخذ من آخر إذا وجد الإذلال بالأخذ ، بخلاف المولى فيما نحن فيه فإنه لم يوجد منه الأخذ لا من يد المتصدق وهو ظاهر ، ولا من يد العبد ، فإن أكسابه ملك مولاه عند أبي يوسف ، فبالعجز لا يتبدل الملك فلا يوجد منه الأخذ بل يبقى ملكه في يده على حاله كما يرشد إليه تشبيهه بابن السبيل إذا وصل إلى وطنه والفقير إذا استغنى وقد بقي في أيديهما ما أخذا من الصدقة . فإن قلت : لا شك أنه كان للمكاتب ملك اليد قبل العجز بالاتفاق ولهذا كان له منع المولى عن التصرف فيما في يده ، فبالعجز انتقل ذلك منه إلى المولى فوجد من المولى الأخذ من يد العبد بهذا الاعتبار .

قلت : ذاك الانتقال ضروري والأخذ فعل اختياري فلا يعد ذلك أخذا ، ولو سلم أن يعد ذلك أخذا فاللازم فيما نحن فيه عند أبي يوسف أخذ المولى ملك نفسه من يد عبده ، والذي كان سببا للخبث إنما هو أخذ ملك الغير من يده [ ص: 216 ] وهو يتحقق عند إباحة الفقير للغني أو الهاشمي فوضح الفرق بين ذلك وبين ما نحن فيه




الخدمات العلمية