الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 306 ] قال تعالى : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ) ( 135 ) .

قوله تعالى : ( أكبر من ذلك ) : أي : شيئا ، أو سؤالا أكبر . ( جهرة ) : مصدر في موضع الحال ؛ أي : مجاهرين ، وقيل : التقدير : قولا جهرة ، وقيل : رؤية جهرة .

قال تعالى : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) ( 154 ) .

قوله تعالى : ( ورفعنا فوقهم ) : " فوقهم " يجوز أن يكون ظرفا لرفعنا ، وأن يكون حالا من " الطور " . ( بميثاقهم ) : في موضع نصب متعلق برفعنا تقديره : بنقض ميثاقهم ، والمعنى : ورفعنا فوقهم الجبل تخويفا لهم ؛ بسبب نقضهم الميثاق . و ( سجدا ) : حال . ( لا تعدوا ) : يقرأ بتخفيف الدال وإسكان العين ، يقال عدا يعدو ، إذا تجاوز الحد ، ويقرأ بتشديد الدال وسكون العين ، وأصله تعتدوا ، فقلب التاء دالا ، وأدغم ، وهي قراءة ضعيفة ؛ لأنه جمع بين ساكنين ، وليس الثاني حرف مد .

قال تعالى : ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) ( 155 ) .

قوله تعالى : ( فبما نقضهم ) : " ما " زائدة ، وقيل : هي نكرة تامة ، ونقضهم بدل منها ، وفيما تتعلق به الباء وجهان : أحدهما : هو مظهر ، وهو قوله بعد ثلاث آيات : ( حرمنا عليهم ) [ النساء : 160 ] . وقوله : ( فبظلم ) : بدل من قوله : " فبما نقضهم " وأعاد الفاء في البدل لما طال الفصل . والثاني : أن ما يتعلق به محذوف ، وفي الآية دليل عليه ، والتقدير : فبنقضهم ميثاقهم طبع على قلوبهم ، أو لعنوا . وقيل : التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم [ ص: 307 ] لا يؤمنون ، والفاء زائدة . ( بل طبع الله عليها ) : أي : ليس كما ادعوا من أن قلوبهم أوعية للعلم . و ( بكفرهم ) : أي : بسبب كفرهم . ويجوز أن يكون المعنى أن كفرهم صار مغطيا على قلوبهم ، كما تقول : طبعت على الكيس بالطين ؛ أي : جعلته الطابع . إلا قليلا ؛ أي : إيمانا أو زمانا قليلا .

قال تعالى : ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) ( 156 ) .

قوله تعالى : ( وبكفرهم ) : معطوف على وبكفرهم الأول ، و ( بهتانا ) : مصدر يعمل فيه القول ؛ لأنه ضرب منه ، فهو كقولهم قعد القرفصاء ، فهو على هذا بمثابة القول في الانتصاب . وقال قوم تقديره : قولا بهتانا . وقيل التقدير : بهتوا بهتانا . وقيل : هو مصدر في موضع الحال ؛ أي : مباهتين .

قال تعالى : ( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا ) ( 157 ) ( بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) ( 158 ) .

قوله تعالى : ( وقولهم إنا قتلنا ) : هو معطوف على : وكفرهم . و ( عيسى ) : بدل ، أو عطف بيان من المسيح ، و ( رسول الله ) : كذلك .

ويجوز أن يكون ( رسول الله ) صفة لعيسى ، وأن يكون على إضمار أعني .

( لفي شك منه ) : منه في موضع جر صفة لشك ، ولا يجوز أن يتعلق بشك ، وإنما المعنى لفي شك حادث منه ؛ أي : من جهته ، ولا يقال شككت منه ، فإن ادعى أن من بمعنى في فليس بمستقيم عندنا .

( ما لهم به من علم ) : يجوز أن يكون موضع الجملة المنفية جرا صفة مؤكدة لشك ؛ تقديره : لفي شك منه غير علم . ويجوز أن تكون مستأنفة ، ومن زائدة ، وفي موضع من علم وجهان : أحدهما : هو رفع بالابتداء ، وما قبله الخبر ، وفيه وجهان : أحدهما : هو به ، " ولهم " فضلة مبينة مخصصة كالتي في قوله : ( ولم يكن له كفوا أحد ) [ الإخلاص : 4 ] فعلى هذا يتعلق به الاستقرار . والثاني : أن لهم هو الخبر ، وفي به على هذا عدة أوجه : أحدهما : أن يكون حالا من الضمير المستكن في الخبر ، والعامل فيه الاستقرار . والثاني : أن يكون حالا من العلم ؛ لأن من زائدة ، فلم تمنع من تقديم الحال ، على أن كثيرا من البصريين يجيز تقديم حال المجرور عليه . والثالث : أنه على التبيين ؛ أي : ما لهم أعني به ، ولا يتعلق بنفس علم ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه ، والوجه الآخر : [ ص: 308 ] أن يكون موضع " من علم " رفعا بأنه فاعل ، والعامل فيه الظرف ؛ إما لهم أو به . ( إلا اتباع الظن ) : استثناء من غير الجنس . ( وما قتلوه ) : الهاء ضمير عيسى . وقيل : ضمير العلم ؛ أي : وما قتلوا العلم يقينا ، كما يقال قتلته علما . و ( يقينا ) : صفة مصدر محذوف ؛ أي : قتلا يقينا ، أو علما يقينا . ويجوز أن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل ؛ بل من معناه ؛ لأن معنى ما قتلوه ما عملوا . وقيل التقدير : تيقنوا ذلك يقينا . ( بل رفعه الله ) : الجيد إدغام اللام في الراء ؛ لأن مخرجهما واحد ، وفي الراء تكرير ، فهي أقوى من اللام ، وليس كذلك الراء إذا تقدمت ؛ لأن إدغامها يذهب التكرير الذي فيها ، وقد قرئ بالإظهار هنا .

قال تعالى : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) ( 159 ) .

قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب ) : إن بمعنى " ما " والجار والمجرور في موضع رفع بأنه خبر المبتدأ ، والمبتدأ محذوف ؛ تقديره : وما من أهل الكتاب أحد .

وقيل : المحذوف من ، وقد مر نظيره ؛ إلا أن تقدير من هاهنا بعيد ؛ لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسم ، ومن الموصولة والموصوفة غير تامة . ( ليؤمنن ) : جواب قسم محذوف ، وقيل : أكد بها في غير القسم ، كما جاء في النفي والاستفهام . والهاء في " موته " تعود على أحد المقدر . وقيل : تعود على عيسى . ( ويوم القيامة ) : ظرف لشهيد ، ويجوز أن يكون العامل فيه يكون .

التالي السابق


الخدمات العلمية