الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 166 ] ( ولو قال إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجز ) لأن الشرط قران النية بعلة العتق وهي اليمين ، فأما الشراء فشرطه ( وإن اشترى أباه ينوي عن كفارة يمينه أجزأه عندنا ) خلافا لزفر والشافعي . لهما أن الشراء شرط العتق ، فأما العلة فهي القرابة وهذا لأن الشراء إثبات الملك والإعتاق إزالته وبينهما منافاة . ولنا أن شراء القريب إعتاق لقوله عليه الصلاة والسلام { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } جعل نفس الشراء إعتاقا لأنه لا يشترط غيره وصار نظير قوله سقاه فأرواه

التالي السابق


( قوله ولو قال إن اشتريت فلانا فهو حر فاشتراه ينوي به كفارة يمينه لم يجزه ) لأن وقوعه كفارة يحتاج إلى نية الكفارة ، وهذه النية يشترط قرانها بعلة العتق وهي اليمين ، وهذا تساهل ، فإن علة العتق هو قوله هو حر وهو جزء اليمين ، فإن اليمين هو مجموع التركيب التعليقي ، وإذا كان الشرط ذلك والفرض أنه لم ينو عند التكلم به بل عند مباشرة الشرط لم يحصل شرط الكفارة فلم يجز عنها ، وهذا لأن العتق وإن كان ينزل عند وجود الشرط لكنه إنما ينزل بقوله أنت حر السابق فإنه العلة ، أما الشراء فشرط عملها فلا يعتبر وجود النية عنده فصار كما لو قال عبدي حر بلا نية ثم نوى عن كفارة لا يجزيه لأن النية شرط متقدم لا متأخر ، وإنما صحت في الصوم على خلاف القياس حتى لو كان نوى عنده إذا اشتريته فهو حر عن كفارة يميني فاشتراه عتق عنها ، وكذا لو قال هو حر يوم أشتريه يريد عن كفارتي .

وأورد عليه أن الجزاء المعلق إنما ينعقد علة عند الشرط ، والشراء هو الشرط ، وقد قرنت النية بالعلة فينبغي أن يقع عنها لقران النية بالعلة .

فالجواب أنه لما كان قبل الشرط بعرضية أن يصير علة اعتبر الشرع له حكم العلية حتى اعتبرت الأهلية عنده اتفاقا ، فلو كان مجنونا عند وجود الشرط وقع الطلاق والعتاق ، ولو كان مجنونا عند التعليق لم يعتبر أصلا فلذا يجب أن تعتبر النية عنده ( قوله وإن اشترى أباه ينويه عن كفارة يمينه أجزأه عندنا خلافا لزفر والشافعي ) ومالك وأحمد وهو قول أبي حنيفة أولا لأن العلة للعتق هي القرابة المحرمة لا شراء القريب لأنها التي ظهر أثرها في وجوب الصلة كالنفقة فهي المؤثرة في العتق ، وإنما الملك شرط عملها سواء حصل بطريق الشراء أو غيره كالهبة والإرث ، وإما أن يكون الشراء نفس العلة فلا لأنه لإثبات الملك والعتق لإزالته وبينهما تناف فلا يكون العتق مقتضاه .

ولنا أن شراء القريب إعتاق ، لما روى الستة إلا البخاري كلهم من حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه [ ص: 167 ] عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } يريد فيشتريه فيعتق هو عند ذلك الشراء ، وهذا للإجماع على أنه لا يحتاج في إثبات عتقه إلى إعتاق زائد بعد الشراء ، ولا شك أن القرابة ظاهرة الأثر فيه شرعا ، وقد رتب عتقه على شرائه بالفاء لما علمت من أن المعنى فيعتق هو فهو مثل سقاه فأرواه ، والترتيب بالفاء يفيد العلية على ما عرف مثل سها فسجد وزنى ماعز فرجم كما بينا في وجه قول زفر وغيره ، وقد ثبت أن الملك أيضا كذلك بالنص مع أنه يشتمل على عين حكمته ، وذلك أن في ترتيب العتق عليه تحصيلا لدفع مفسدة القطيعة الحاصلة بملكه إياه كالبهائم والأمتعة ولمصلحة الصلة ، وهذه عين حكمة القرابة التي بها كانت علة العتق فوجب كون مجموع القرابة والملك علة العتق ولذا جمعنا بينهما ، واشتهرت عبارتنا القائلة شراء القريب إعتاق غير أن الشراء علة العلة ، أي علة جزء العلة .

ولما كان الشراء الاختياري هو الجزء الأخير من العلة بخلاف القرابة أضيف الحكم إليه ولزمت النية عنده ، فإذا نوى عند الشراء أن يشتريه عن كفارته صح ، بخلاف ما إذا ملك الأب وغيره بالإرث فإن الملك يثبت فيه بلا اختيار فلا يتصور النية فيه فلا يعتق عن كفارته إذا نواه لأنها نية متأخرة عن العتق على ما تقدم ، بخلاف ما إذا وهب له أو أوصي له به أو تصدق به عليه فنوى عند القبول أن يعتق عن كفارته فإنه يصح لسبقها مختارا في السبب ، وبما ذكرنا من الترتيب ظهر فساد قولهم العتق مستحق بالقرابة لأن العتق لا يثبت قبل تمام العلة .

وأما المنافاة التي ذكرت في قولهم الشراء يوجب الملك والإعتاق إزالته فهو بناء على ظاهر اللفظ في قولنا شراء القريب إعتاق ، وقد علمت أنه إنما يوجب الملك في القريب وملك القريب علة العتق فالإضافة إليه إضافة إلى علة بعيدة ، والمنافاة إنما تثبت لو كان إزالة الملك نفس موجب الشراء أولا وبالذات ; وكان الأليق بهذه المسألة وما بعدها فصل الكفارة




الخدمات العلمية