الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن ) ( قال إن تسريت جارية فهي حرة ) [ ص: 169 ] فتسرى جارية كانت في ملكه عتقت لأن اليمين انعقدت في حقها لمصادفتها الملك وهذا لأن الجارية منكرة في هذا الشرط فتتناول كل جارية على الانفراد ( وإن اشترى جارية فتسراها لم تعتق ) خلافا لزفر فإنه يقول : التسري لا يصح إلا في الملك فكان ذكره ذكر الملك وصار كما إذا قال لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر يصير التزوج مذكورا [ ص: 170 ] ولنا أن الملك يصير مذكورا ضرورة صحة التسري وهو شرط فيتقدر بقدره ولا يظهر في حق صحة الجزاء وهو الحرية ، [ ص: 171 ] وفي مسألة الطلاق إنما يظهر في حق الشرط دون الجزاء ، حتى لو قال لها إن طلقتك فأنت طالق ثلاثا فتزوجها وطلقها واحدة لا تطلق ثلاثا فهذه وزان مسألتنا

التالي السابق


( قوله ومن قال إن تسريت جارية فهي حرة ) اعلم أن التسري هنا تفعل من السرية وهو اتخاذها ، والسرية إن كانت من السرور فإنها تسر بهذه الحالة ويسر هو بها أو من السر والسيادة فضم سينها على الأصل ، وإن كانت من السر بمعنى الجماع أو بمعنى ضد الجهر فإنها قد تخفى عن الزوجات الحرائر فضمها من تغييرات النسب كما قالوا دهري بالضم في النسبة إلى الدهر وفي النسبة إلى السهل من الأرض سهلي بالضم ، والفعل منه بحسب اعتبار مصدره ، فإن اعتبر التسري قيل تسرى بإبدال الياء ألفا [ ص: 169 ] لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وإن اعتبر التسرر قيل تسرر ، وكان القياس أن لا يقال ألا تسري في المصدرين لأنه اتخاذ السرية ، لكن لوحظ فيه أصل السرية وهو السرور أو السر فاستعمل براءين بإبدال الياء راء ، وخصت لأنها هي الأصل ، ومنه ما ذكره ابن الأثير عن عائشة وسئلت عن المتعة فقالت " لا نجد في كتاب الله تعالى إلا النكاح والاستسرار " والقياس الاستسراء بهمزة هي بدل الياء الواقعة طرفا بعد ألف ساكنة كهمزة كساء ، ومعنى التسري عند أبي حنيفة ومحمد أن يحصن أمته ويعدها للجماع أفضى إليه بمائه أو عزل عنها .

وعند أبي يوسف ونقل عن الشافعي رحمهما الله تعالى أن لا يعزل ماءه مع ذلك ، فعرف أنه لو وطئ أمة له ولم يفعل ما ذكرنا من التحصين والإعداد لا يكون تسريا وإن لم يعزل عنها وإن علقت منه .

لنا أن مادة اشتقاقه سواء اعتبرت من السرور أو ما يرجع إلى الجماع أو غير ذلك لا تقتضي الإنزال فيها لأن الجماع والسرور والسيادة كل منها يتحقق دونه ، فأخذه في المفهوم واعتباره بلا دليل ، وكون العرف في التسري تحصينها لطلب الولد دائما ممنوع بل العرف مشترك في المشاهد ; فمن الناس من يقصد ذلك ، ومنهم من يقصد مجرد قضاء الشهوة من غير أن تلد له إذا عرف هذا فاعلم أنه إذا حلف لا يتسرى فاشترى جارية فحصنها ووطئها حنث ذكره القدوري في التجريد عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله .

ولو قال إن تسريت جارية فعبدي حر فاشترى جارية فتسراها عتق العبد الذي كان في ملكه وقت الحلف ، ولو لم يكن في ملكه عبد فملك عبدا ثم اشترى جارية فتسراها لا يعتق هذا العبد المستحدث . ولو قال إن تسريت جارية فهي حرة فتسرى جارية كانت في ملكه يوم حلف عتقت ، وهي مسألة الكتاب وهي إجماعية .

ولو اشترى جارية بعد الحلف فتسراها لا تعتق عندنا ولا عند أحد من الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله . وقال زفر : تعتق لأن التسري لا يصح إلا في الملك فكان ذكره ذكر الملك فكأنه قال : إن ملكت أمة فتسريتها فهي حرة ، وصار كما لو قال لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر يصير التزوج مذكورا ، حتى لو تزوجها وطلقها عتق العبد [ ص: 170 ] ولنا أنه لو عتقت المشتراة لزم صحة تعليق عتق من ليس في الملك بغير الملك وسببه ، والتالي باطل بالإجماع ، وهذا لأن التسري ليس نفس الملك ولا سببه بل قد يتفق بعده وقد لا يتفق ، فإن حقيقته ليس إلا إعداد أمة حصنها للجماع ، فإنما يستلزم وجوده وجود الملك سابقا على ابتداء التحصين والإعداد أو مقارنا ، وهذا القدر لا يستلزم إخطاره عند التكلم أصلا فضلا عن خطوره ، ثم تقديره مرادا لأنه ليس لازما بينا لمدلول اللفظ في الذهن بل لازم لوجوده في الخارج ، واللوازم الخارجية لا يلزم تعلقها تعقل ما هو ملزومها في الخارج ، بخلاف ما لو قال إن ملكت أمة فتسريتها إلخ فإنه صرح بجعل الشرط الملك ، وبخلاف ما قاس عليه من قوله لأجنبية إن طلقتك فعبدي حر لأن عتق عبده القائم في ملكه ليس لاعتبارنا الشرط مجموع إن تزوجتك ثم طلقتك فعبدي حر ، بل لاقتضاء الشرط الملك ، غير أن الشرط هناك إذا ثبت بمقتضاه ثبت الجزاء وهو عتق عبده ، أما هاهنا لو ثبت التسري لا يثبت عتق المتسرى بها لاحتياجه إلى أمر زائد على مجرد الشرط شرعا وهو كونه نفس الملك أو سببه فلهذا ثبت الملك هاهنا ضرورة صحة التسري به فقط لأن الثابت ضرورة أمر لا يتجاوزها ، ثم لا يثبت عند التسري عتقها لاحتياج عتق غير المملوكة بالإعتاق المعلق قبل ملكها إلى كونه معلقا بالملك أو سببه ولم يوجد ، فظهر أن هذه ليست وزان مسألتنا ، وإنما وزانها لو قال لأجنبية إن طلقتك واحدة فأنت طالق ثلاثا ثم تزوجها فطلقها واحدة .

ونحن نقول في هذه لا تطلق الأخريين الباقيتين لو طلقها واحدة بعد أن تزوج بها لما ذكرنا من أن شرط الطلاق الواقع بالتطليق المعلق قبل التزوج كونه معلق بالملك أو سببه ولم يوجد . نعم قد يقدر اللفظ الدال على المعنى فيصير معتبرا لفظا وإن لم يكن مدلولا التزاميا لتصحيح الجزاء فيما إذا علم أن غرض اليمين الحمل فإنه يعرف قصد وجود الشرط ليوجد الجزاء كما قدر أبو حنيفة رحمه الله لفظ حيا في قوله إن ولدت ولدا فهو حر لتصحيح الجزاء للعلم بأن غرضه وجود الشرط وهو الولادة والحمل عليها وتخفيفها عليها ، ففيما ليس كذلك بل يعرف أن الغرض منع الشرط بمنع [ ص: 171 ] نفسه عنه لا يجوز التقدير لتصحيح وقوع الجزاء ، وحلف التسري من هذا القبيل .

هذا وقد أورد على زفر أنه لا يقول بالمقتضى حتى حكم في قوله أعتق عبدك عني بألف أنه يعتق عن المأمور فكيف خالف هنا وحكم باعتباره وتقديره ؟ وأجيب بأنه لا يلزمنا إصلاحه له فإن مناقضته لا تضرنا . ومنهم من أجاب بأنه ليس عنده من باب المقتضى بل من دلالة النص حيث كان فهم الملك ثابتا عند فهم معنى التسري .

واعترض بأن الدلالة لا بد فيها من صورة أصل وفرع وعلة حتى قيل هي قياس غير أنه لا يفتقر إلى أهلية الاجتهاد في فهم حكم المسكوت . فالوجه كون هذا اللفظ في العرف بمعنى إن وطئت مملوكة لي فكانت الدلالة بطريق العبارة ، وقد نقلنا في تحرير الأصول عن فخر الإسلام تفسيرا للدلالة بمعنى دلالة الالتزام وإن لم ترضه ، هذا والتحقيق أن ليس هذا من المقتضى ، لأن المقتضى ما يكون ثبوته لضرورة تصحيح الكلام الظاهر عدم صحته لغة مثل " رفع الخطأ " أو شرعا مثل أعتق عبدك عني . وقول القائل إن تسريت لا يتبادر كذبه فيحتاج في تصحيحه إلى التقدير إزالة للخطأ تصحيحا لما لم يصح ظاهره ، وهذا على وزان ما قلناه في إن أكلت بل الحق أنه في اللغة والعرف واحد وهو إعداد المملوكة إلخ لا الإعداد الأعم منها ومن المزني بها فهو مدلول تضمني من قبيل العبارة




الخدمات العلمية