الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم والفواكه الرطبة ) لقوله عليه الصلاة والسلام { لا قطع في ثمر ولا في كثر } والكثر الجمار ، وقيل الودي . وقال عليه الصلاة والسلام { لا قطع في الطعام } والمراد والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمر لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا . وقال الشافعي : يقطع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام { لا قطع في ثمر ولا كثر فإذا آواه الجرين أو الجران قطع } [ ص: 367 ] قلنا : أخرجه عن وفاق العادة ، والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع .

قال ( ولا قطع في الفاكهة على الشجر والزرع الذي لم يحصد ) لعدم الإحراز

التالي السابق


( قوله ولا قطع فيما يتسارع إليه الفساد كاللبن واللحم ) والخبز أيضا ذكره في الإيضاح وشرح الطحاوي ، ولا فرق في عدم القطع باللحم بين كونه مملوحا قديما أو غيره ( والفواكه الرطبة ) وعن أبي يوسف يقطع بها وبه قال الشافعي لما روي عنه عليه الصلاة والسلام من رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمر " أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله ، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع " أخرجه أبو داود عن ابن عجلان ، وعن الوليد بن كثير وعن عبيد الله بن الأخنس وعن محمد بن إسحاق أربعتهم عن عمرو بن شعيب به .

وأخرجه النسائي أيضا من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمرو بن شعيب به ، وفي رواية { أن رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها فقال : فيها ثمنها مرتين ، وضرب ونكال ، وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك المجن ، قال : يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها في أكمامها ؟ فقال : من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال ، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع } رواه أحمد والنسائي ، وفي لفظ { ما ترى في الثمر المعلق ؟ فقال ليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين ، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات ونكال } ورواه الحاكم بهذا المتن ، وقال : قال إمامنا إسحاق بن راهويه ، إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمرو ، رواه ابن أبي شيبة ، ووقفه على عبد الله بن عمرو قال : [ ص: 367 ] { ليس في شيء من الثمار قطع حتى يؤويه الجرين } .

وأخرجه عن ابن عمر مثله سواء أجاب ( بأنه أخرجه عن وفق العادة ، والذي يؤويه الجرين في عادتهم هو اليابس من الثمر وفيه القطع ) لكن ما في المغرب من قوله : الجرين المربد وهو الموضع الذي يلقى فيه الرطب ليجف وجمعه جرن يقتضي أنه يكون فيه الرطب في زمان وهو أول وضعه ، واليابس وهو الكائن في آخر حاله فيه ، ثم ليس في هذه الأحاديث لفظ الجران ، وكأنه وقع في بعض الألفاظ الجران فذكره المصنف على الشك ، وجران البعير مقدم عنقه من مذبحه إلى منخره ، والجمع جرن ، فجاز أن يسمى به هاهنا الجراب المتخذ منه فكأنه قال حتى يؤويه المربد أو الجراب ، ثم المعنى من قوله حتى يؤويه الجرين : أي المربد حتى يجف : أي حتى يتم إيواء الجرين إياه فإنه عند ذلك ينقل عنه ويدخل الحرز ، وإلا فنفس الجرين ليس حرزا ليجب القطع بالأخذ منه ، اللهم إلا أن يكون له حارس يترصده ، والجواب أنه معارض بإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم { لا قطع في ثمر ولا كثر } وقوله { لا قطع في الطعام } أما الأول فرواه الترمذي عن الليث بن سعد والنسائي وابن ماجه عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان : { أن غلاما سرق وديا من حائط ، فرفع إلى مروان فأمر بقطعه ، فقال رافع بن خديج : قال النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر ولا كثر } .

ورواه ابن حبان في صحيحه مرتين في القسم الأول ، وفي القسم الثاني . قال عبد الحق : هكذا رواه سفيان بن عيينة . ورواه غيره ولم يذكروا فيه واسعا انتهى . وكذا رواه مالك والحاصل أنه تعارض الانقطاع والوصل ، والوصل أولى لما عرف أنه زيادة من الراوي الثقة ، وقد تلقت الأمة هذا الحديث بالقبول فقد تعارضا في الرطب الموضوع في الجرين ، وفي مثله من الحدود يجب تقديم ما يمنع الحد درءا للحد ، ولأن ما تقدم متروك الظاهر فإنه لا يضمن المسروق بمثلي قيمته ، وإن نقل عن أحد فعلماء الأمة على خلافه لأنه لا يبلغ قوة ثبوت كتاب الله تعالى ، وهو قوله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } فلا يصح عنه عليه الصلاة والسلام ذلك ، ففيه دلالة الضعف أو النسخ فينفرد هذا الحديث عن المعارض ، فبطل قول من قال يتقيد حديث الثمر والكثر بهذا التفصيل : يعني يفصل الحديث المذكور بين أن يأكله من أعلى النخل فلا شيء عليه ، أو يخرجه ففيه ضعف قيمته . وجلدات نكال ، أو يأخذه من بيدره فيقطع والكثر الجمار . وقيل هو الودي وهو صغار النخل ، وجزم في المغرب أنه خطأ . وأما الحديث الثاني فأخرجه أبو داود في المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصري { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لا أقطع في الطعام } وذكره عبد الحق ولم يعله بغير الإرسال ، وأنت تعلم أنه ليس بعلة عندنا فيجب العمل بموجبه ، وحينئذ يجب اعتباره في غير محل الإجماع على أنه يقطع في الحنطة والسكر لزم أن يحمل على ما يتسارع إليه الفساء كالمهيإ للأكل منه وما في معناه كاللحم والثمار الرطبة مطلقا في الجرين وغيره . هذا والقطع في الحنطة وغيرها إجماعا إنما هو في غير سنة القحط ، وأما فيها فلا ، سواء كان مما يتسارع إليه الفساد أو لا لأنه عن ضرورة ظاهر ، أو هي تبيح التناول ، وعنه عليه الصلاة والسلام { لا قطع في مجاعة مضطر } وعن عمر رضي الله عنه { لا قطع [ ص: 368 ] في عام سنة } .




الخدمات العلمية