الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها وحرقها ولا يعقرها ولا يتركها ) وقال الشافعي : يتركها ; لأنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة } .

ولنا أن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح ، [ ص: 477 ] ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء ، ثم يحرق بالنار لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه ، وبخلاف العقر لأنه مثلة ، وتحرق الأسلحة أيضا ، وما لا يحترق منها يدفن في موضع لا يقف عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم .

التالي السابق


( قوله وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش ) أي من مواشي أهل الحرب ( فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها ثم أحرقها ولا يعقرها ) كما نقل عن مالك لما فيه من المثلة بالحيوان ، وعقر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فرسه ربما كان لظنه عدم الفتح في تلك الوقعة فخشى أن ينال المشركون فرسه ، ولم يتمكن من الذبح لضيق الحال عنه بالشغل بالقتال أو كان قبل نسخ المثلة أو علمه بها ( ولا يتركها ) لهم ( وقال الشافعي ) وأحمد ( يتركها ; لأنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن ذبح الشاة إلا لمأكلة } ) قلنا : هذا غريب لم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام [ ص: 477 ]

نعم روي من قول أبي بكر نفسه ، رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد : أن أبا بكر رضي الله عنه بعث جيوشا إلى الشام ، فخرج يتبع يزيد بن أبي سفيان فقال : إني أوصيك بعشر : لا تقتلن صبيا ولا امرأة ولا كبيرا هرما ، ولا تقطعن شجرا مثمرا ، ولا تعقرن شاة ولا بقرة إلا لمأكلة ، ولا تخربن عامرا ، ولا تحرقن ، ولا تغرقن ، ولا تجبن ، ولا تغلل . ثم هو محمول على ما إذا آنس الفتح وصيرورة البلاد دار إسلام وكان ذلك هو المستمر في بعوث أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فباعتباره كان ذلك وقد قلنا بذلك . وذكرنا فيما تقدم أنه إذا كان ذلك فلا تحرق ولا تخرب لأنه إتلاف مال المسلمين ; ألا ترى إلى قوله لا تحرقن وهو رضي الله عنه قد علم قوله عليه الصلاة والسلام { أغر على أبنى صباحا ثم حرق } بقي مجرد ذبح الحيوان وأنه لغرض الأكل جائز ; لأنه غرض صحيح ( ولا غرض أصح من كسر شوكتهم ) وتعريضهم على الهلكة والموت وإنما يحرق ( لينقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان ) والتحريق لهذا الغرض الكريم ( بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه ) وفيه أحاديث كثيرة منها حديث البخاري عن أبي هريرة قال { بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال لنا : إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار ، فلما خرجنا دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن وجدتم فلانا وفلانا فاقتلوهما ولا تحرقوهما فإنه لا يعذب بها إلا الله } ورواه البزار وسماهما هبار بن الأسود ونافع بن عبد القيس ، وطوله البيهقي .

وذكر السبب أنهما كانا روعا زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت لاحقة به عليه الصلاة والسلام حتى ألقت ما في بطنها . والقضية مفصلة عند ابن إسحاق معروفة لأهل السير .

وذكر البخاري أيضا { تحريق علي رضي الله عنه الزنادقة الذين أتى بهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذبوا بعذاب الله ولقتلتهم لقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه } وأخرج البزار في مسنده عن عثمان بن حيان قال : كنت عند أم الدرداء رضي الله عنها فأخذت برغوثا فألقيته في النار ، فقالت : سمعت أبا الدرداء يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يعذب بالنار إلا رب النار } هذا ( وتحرق الأسلحة أيضا ، وما لا يحترق منها كالحديد يدفن في موضع لا يقف عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم ) وما في فتاوى الولوالجي : تترك النساء والصبيان في أرض غامرة : أي خربة حتى يموتوا جوعا كي لا يعودوا حربا علينا ; لأن النساء بهن النسل والصبيان يبلغون فيصيرون حربا علينا فبعيد ; لأنه قتل بما هو أشد من القتل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في النساء والصبيان لما فيه من التعذيب ، ثم هم قد صاروا أسارى بعد الاستيلاء .

وقد { أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى خيرا } . حدث ابن إسحاق عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه وقال : استوصوا بالأسارى خيرا ، فقال أبو عزيز : مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال له شد يديك به فإن أمه [ ص: 478 ] ذات متاع ، قال : وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا ، ما يقع في يد رجل منهم كسرة من الخبز إلا نفحني بها ، قال : فأستحيي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها } فكيف يجوز أن يقتلوا جوعا ، اللهم إلا أن يضطروا إلى ذلك بسبب عدم الحمل والميرة فيتركوا ضرورة ، والله أعلم




الخدمات العلمية