الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويجب القطع بإقراره مرة واحدة ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد . وقال أبو يوسف : لا يقطع إلا بالإقرار مرتين ) وروي عنه أنهما في مجلسين مختلفين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا . ولهما أن السرقة قد ظهرت بالإقرار مرة [ ص: 361 ] فيكتفى به كما في القصاص وحد القذف ولا اعتبار بالشهادة لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الإقرار شيئا لأنه لا تهمة . وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال لا يصح أصلا لأن صاحب المال يكذبه ، واشتراط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع . [ ص: 362 ] قال ( ويجب بشهادة شاهدين ) لتحقق الظهور كما في سائر الحقوق ، وينبغي أن يسألهما الإمام عن كيفية السرقة وماهيتها وزمانها ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود ، ويحبسه إلى أن يسأل عن الشهود للتهمة . .

التالي السابق


( قوله ويجب القطع بإقراره مرة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد ) ومالك والشافعي وأكثر علماء هذه الأمة ( وقال أبو يوسف : لا يقطع إلا بالإقرار مرتين ) وهو قول أحمد وابن أبي ليلى وزفر وابن شبرمة ، ويروى عن أبي يوسف اشتراط كون الإقرارين في مجلسين استدلوا بالمنقول والمعنى ، أما المنقول فما روى أبو داود عن أبي أمية المخزومي { أنه عليه الصلاة والسلام أتي بلص قد [ ص: 361 ] اعترف ولم يوجد معه متاع فقال صلى الله عليه وسلم ما إخالك سرقت ؟ فقال : بلى يا رسول الله ، فأعادها عليه الصلاة والسلام مرتين أو ثلاثا ، فأمر به فقطع } فلم يقطعه إلا بعد تكرر إقراره : وأسند الطحاوي إلى علي رضي الله عنه أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال : قد شهدت على نفسك شهادتين . فأمر به فقطع فعلقها في عنقه .

وأما المعنى فإلحاق الإقرار بها بالشهادة عليها في العدد فيقال حد فيعتبر عدد الإقرار به بعدد الشهود نظيره إلحاق الإقرار في حد الزنا في العدد بالشهادة فيه . ولأبي حنيفة ما أسند الطحاوي إلى أبي هريرة في هذا الحديث { قالوا يا رسول الله إن هذا سرق ، فقال : ما إخاله سرق ، فقال السارق : بلى يا رسول الله ، قال ; اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ، قال : فذهب به فقطع ثم حسم ثم أتي به . إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : تب إلى الله عز وجل ، فقال : تبت إلى الله عز وجل ، فقال : تاب الله عليك } فقد قطعه بإقراره مرة ، وأما المعنى فمعارض بحد القذف والقصاص وهو وإن لم يكن حدا فهو في معناه من حيث إنه عقوبة هكذا ظهر الموجب مرة ( فيكتفى به كالقصاص وحد القذف ) وأما قياسه على الشهادة فمع الفارق لأن اعتبار العدد في الشهادة إنما هو لتقليل التهمة ولا تهمة في الإقرار ، إذ لا يتهم الإنسان في حق نفسه بما يضره ضررا بالغا ، على أن الإقرار الأول إما صادق فالثاني لا يفيد شيئا إذ لا يزداد صدقا . وإما كاذب فبالثاني لا يصير صدقا فظهر أنه لا فائدة في تكراره .

فإن قيل : فائدته رفع احتمال كونه يرجع عنه أجاب المصنف بقوله وباب الرجوع في حق الحد لا ينتفي بالتكرار فله أن يرجع بعد التكرار فيقبل في الحدود ولا يصح في المال رجوعه بوجه ( لأن صاحب المال يكذبه ) فلا يقبل رجوعه ، وأما النظر المذكور : أعني اشتراط كون الإقرار بالزنا متعددا كما في الشهادة به فلا نسلم أن ذلك بطريق القياس ، وكيف وحكم أصله وهو الزيادة في العدد معدول عن القياس ، فالواقع أن كلا من تعدد الشهادة وتعدد الإقرار في الزنا ثبت بالنص ابتداء لا بالقياس ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ فروع من علامة العيون ]

قال أنا سارق هذا الثوب : يعني بالإضافة قطع ، ولو نون القاف لا يقطع لأنه على الاستقبال ، والأول على الحال . وفي عيون المسائل قال : سرقت من فلان مائة درهم بل عشرة دنانير يقطع في العشرة دنانير ويضمن مائة درهم ، هذا إذا ادعى المقر له المالين ، وهو قول أبي حنيفة لأنه رجع عن الإقرار بسرقة مائة وأقر بعشرة دنانير فصح رجوعه عن الإقرار بالسرقة الأولى في حق القطع ولم يصح في حق الضمان .

وصح الإقرار بالسرقة الثانية في حق القطع وبه ينتفي الضمان ، بخلاف ما لو قال سرقت مائة بل مائتين فإنه يقطع ولا [ ص: 362 ] يضمن شيئا لو ادعى المقر له المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين فوجب القطع وانتفى الضمان والمائة الأولى لا يدعيها المقر له ، بخلاف الأولى ، ولو قال سرقت مائتين بل مائة لم يقطع ، ويضمن المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين ورجع عنهما فوجب الضمان ولم يجب القطع ولم يصح الإقرار بالمائة إذ لا يدعيها المسروق منه ، ولو أنه صدقه في الرجوع إلى المائة لا ضمان ( قوله ويجب بشهادة شاهدين كما في سائر الحقوق ) وهذا بإجماع الأمة ( قوله وينبغي أن يسألهما الإمام عن كيفية السرقة ) أي كيف سرق لاحتمال كونه سرق على كيفية لا يقطع معها كأن نقب الجدار وأدخل يده فأخرج المتاع فإنه لا يقطع على ظاهر المذاهب الثلاثة ، وأخرج بعض النصاب ثم عاد وأخرج البعض الآخر أو ناول رفيقا له على الباب فأخرجه ويسألهما ( عن ماهيتها ) فإنها تطلق على استراق السمع والنقص من أركان الصلاة ( وعن زمانها ) لاحتمال التقادم ، وعند التقادم إذا شهدوا يضمن المال ولا يقطع على ما مر ، وتقدم أيضا ما أورد من أن التقادم ينبغي أن لا يمنع قبول الشهادة على القطع لأن الشاهد لا يتهم في تأخيره لتوقفه على الدعوى وتقدم جوابه للمصنف ولقاضي خان ، ويسألهما عن المكان لاحتمال أنه سرق في دار الحرب من مسلم ، وهذا بخلاف ما لو كان ثبوت السرقة بالإقرار حيث لا يسأل القاضي المقر عن الزمان لأن التقادم لا يبطل الإقرار ولا يسأل المقر عن المكان لكن يسأله عن باقي الشروط من الحرز وغيره اتفاقا .

وفي الكافي : وعن المسروق إذ سرقة كل مال لا توجب القطع كما في الثمر والكمثرى ، وقدره لاحتمال كونه دون نصاب ، وعن المسروق منه لأن السرقة من بعض الناس لا توجب القطع كذي الرحم المحرم ومن الزوج . وقال في المبسوط : لم يذكر محمد السؤال عن المسروق منه لأنه حاضر يخاصم والشهود يشهدون على السرقة منه فلا حاجة إلى السؤال عنه ، وأنت تعلم أن شهادتهم بأنه سرق من هذا الحاضر وخصومة الحاضر لا يستلزم بيانهما النسبة من السارق ولا الدعوى تستلزم أن [ ص: 363 ] يقول سرق مالي وأنا مولاه أو جده ، وإنما يسأل عن هذه الأمور احتياطا للدرء ، وإذا بينوا ذلك على وجه لا يسقط الحد ، فإن كان القاضي عرف الشهود بالعدالة قطعه ، وإن لم يكن يعرف حالهم حبس المشهود عليه حتى يعدلوا لأنه صار متهما بالسرقة ، والتوثق بالتكفيل ممتنع لأنه لا كفالة في الحدود وهنا نظر ، وهو أن إعطاء الكفيل بنفسه جائز ، وعلى قول أبي يوسف يجبر ، ولم يقع تفصيل في هذا الحكم : أعني حبسه عند إقامة البينة حتى يزكوا ، ومقتضى ما ذكر من أنه يحبس بتهمة ما يوجب الحد لا التعزير بسبب أنه صار متهما بالفساد أنه لو صح التكفيل ينبغي أن لا يعدل عن حبسه بسبب ما لزمه من التهمة بالفساد في الأرض ، ولذا ذكر في الفتاوى : من يتهم بالقتل والسرقة يحبس ويخلد في السجن إلى أن يظهر التوبة ، بخلاف من يبيع الخمر ويشتري ويترك الصلاة فإنه يحبس ويؤدب ثم يخرج .

وفي التجنيس من علامة النوازل : لص معروف بالسرقة وجده رجل يذهب في حاجة له غير مشغول بالسرقة ليس له أن يقتله ، وله أن يأخذه ، وللإمام أن يحبسه حتى يتوب لأن الحبس زجرا للتهمة مشروع ، وإذا عدل الشاهدان والمسروق منه غائب لم يقطعه إلا بحضرته ، وإن كان حاضرا والشاهدان غائبان لم يقطع أيضا حتى يحضرا ، وكذلك في الموت ، وهذا في كل الحدود سوى الرجم ويمضي القصاص إن لم يحضروا استحسانا هكذا في كافي الحاكم .




الخدمات العلمية