الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                4175 ص: حدثنا ربيع المؤذن ، قال: ثنا أسد بن موسى ، قال: ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة ، عن عبد الملك بن جابر ، عن جابر بن عبد الله قال: "كنت عند النبي -عليه السلام- جالسا فقد قميصه [من جيبه] حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبي -عليه السلام- فقال: إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم، وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي، وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة".

                                                التالي السابق


                                                ش: إسناده حسن ورجاله ثقات.

                                                وأخرجه أبو عمر: من طريق أسد نحوه، ثم قال: قال مالك وغيره: لم يلتفتوا إلى حديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة ، عن جابر وردوه بحديث عائشة لتواتر طرقه وصحة مجيئه على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

                                                قوله: "قد قميصه" من القد وهو القطع طولا كالشق.

                                                قوله: "ببدني" -البدن بضم الباء وسكون الدال- جمع بدنة وهي من الإبل والبقر، وأراد بها ها هنا الإبل.

                                                قوله: "أن تقلد اليوم" من التقليد وهو يكون بنعل أو جلد وما أشبهه ليكون علامة للهدي، وقالت الحنفية: لو قلده بعروة مزادة أو لحاء شجرة أو شبه ذلك جاز، لحصول العلامة، وقال الشافعي: ينبغي أن يقلد بنعلين، وقال مالك:

                                                [ ص: 289 ] تجزئ واحدة، وعن الثوري يجزئ فم القربة، وأجمعوا أن تقليد الهدي سنة ولكن اختلفوا في أي هدي يقلد، فعن سعيد بن جبير الإبل تقلد وتشعر والغنم لا تشعر ولا تقلد، والبقر تقلد ولا تشعر، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقلد الغنم، وقال أبو حنيفة أيضا: لا يقلد إلا هدي المتعة والقران والتطوع في الإبل والبقر، ولا يقلد هدي الإحصار ولا الجماع ولا جزاء الصيد، وقال مالك والشافعي: يقلد كل هدي ويشعر.

                                                قوله: "وتشعر" من الإشعار وهو أن يشق أحد جانبي سنام البدنة حتى يسيل دمها، ويجعل ذلك لها علامة يعرف أنها هدي، وفي "الجامع" للقزاز: أشعرها إشعارا، وإشعارها أن يوجأ أصل سنامها بسكين، سميت بما حل فيها وذلك لأن الذي فعل بها علامة تعرف بها.

                                                وفي "المحكم": هو أن يشق جلدها أو يطعنها حتى يظهر الدم، وقال ابن حبيب: تشعر طولا، وقال السفاقسي عرضا، والعرض عرض السنام من العنق إلى الذنب، وهو سنة عند عامة العلماء إلا أن أبا حنيفة لم يره سنة، وقد شنع ابن حزم على أبي حنيفة في كتابه "المحلى" وقال: قال أبو حنيفة: أكره الإشعار وهو مثلة، وقال: هذه طامة من طوام العالم أن يكون مثلة شيء فعله رسول الله -عليه السلام- أف لكل عقل يتعقب حكم رسول الله -عليه السلام-، ويلزمه أن تكون الحجامة وفتح العرق مثلة، فيمنع من ذلك وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدما من السلف، ولا موافقا من فقهاء عصره إلا من ابتلاه الله بتقليده.

                                                قلت: هذه سفاهة وقلة حياء، لأن الطحاوي الذي هو أعلم الناس بمذاهب الفقهاء ولا سيما بمذهب أبي حنيفة ذكر أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار ولا كونه سنة وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاكها لسراية الجرح، لا سيما في حر الحجاز مع الطعن بالسنان أو الشفرة، فأراد سد الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من وقف على الحد فقطع الجلد دون اللحم فلا يكرهه، وذكر

                                                [ ص: 290 ] الكرماني عنه استحسانه قال: وهو الأصح لا سيما أنه كان بمبضع ونحوه فيصير كالفصد أو الحجامة، وأما قوله: "وهذه قولة لا نعلم لأبي حنيفة فيها متقدما من السلف" قول فاسد؛ لأن ابن بطال ذكر أن إبراهيم النخعي أيضا لا يرى الإشعار.

                                                ثم كيفية الإشعار على ما ذكره أبو يوسف ومحمد: هو أن يطعنها في سنامها من الجانب الأيسر حتى يسيل الدم، وعند الشافعي وأحمد -في رواية-: الأيمن، وهما استدلا بما رواه عن ابن عمر أنه كان يشعرها مرة في الأيمن ومرة في الأيسر، ذكره ابن بطال، وقال السفاقسي: إذا كانت البدنة ذللا أشعرها من الأيسر، وإن كانت صعبة قرن بدنتين ثم قام بينهما وأشعر إحداهما من الأيمن والأخرى من الأيسر، وقال ابن قدامة: وعن أحمد: من الجانب الأيسر؛ لأن ابن عمر فعله، وبه قال مالك، وحكاه ابن حزم عن مجاهد، وفي "شرح الموطأ" للإشبيلي: وجائز الإشعار في الجانب الأيمن وفي الجانب الأيسر، وكان ابن عمر ربما فعل هذا وربما فعل هذا، وأكثر أهل العلم يستحبونه في الجانب الأيمن، منهم الشافعي وأبو يوسف ومحمد وإسحاق؛ لحديث ابن عباس: "أن رسول الله -عليه السلام- صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة فأشعرها من صفحة سنامها اليمنى، ثم سلت الدم منها، وقلدها بنعليه".

                                                وقال مالك: تشعر من الجانب الأيسر كما روى نافع عن ابن عمر وكذلك رواه عبيد الله، وقال مجاهد: أشعر من حيث شئت، قال: والإشعار طولا في شق البعير

                                                أخذا من جهة مقدم البعير إلى جهة عجزه فيكون مجرى الدم عريضا فيتبين الإشعار، ولو كان مع عرض البعير كان مجرى الدم يسيرا خفيفا لا يقع به مقصود الإعلان بالهدي، فإن لم يكن للإبل أو البقر أسنمة قلدت ولم تشعر واختار ابن حبيب أن تشعر الإبل والبقر، وإن لم يكن لها أسنمة، وأما الغنم فلا تشعر جملة، وقال ابن بطال: اختلفوا في إشعار البقر، فكان ابن عمر يقول تشعر في أسنمتها، وحكاه ابن حزم عن أبي بن كعب، وقال عطاء والشعبي: تقلد وتشعر، وهو قول أبي ثور، وقال مالك: تشعر التي لها سنام وتقلد، ولا تشعر التي لا سنام لها وتقلد، وقال سعيد بن جبير: تقلد ولا تشعر.




                                                الخدمات العلمية